"الْمَسِيح مَنْ هُو؟ "

طبيعة شخصه وعمله الفدائي
الدكتور القس أشرف عزمي
جميع حُقوق الطبع محفوظة، فلا يجوز اقتباس، أو إعادة
نشر، أو طبع الكتاب أو أي جُزء منه، بدُون الحُصول على
إذن مكتوب من الناشِر. من يُخالِف ذلك يُعرّض نفسَه
للمساءلة القضائيّة

محتويات الكتاب

الفصل الأول: مصداقية الاناجيل الاربعة الفصل الثاني: هل كان يَسُوع مدركًا لحقيقة شخصه؟ الفصل الثالث: براهين لاهوت المَسِيح

الفصل الرابع: والكلمة صار جسدًا

الفصل الخامس: صلب وموت المَسِيح الفصل السادس: قيامة المَسِيح

ملحق: أسئلة ونصوص كتابيّة تحتاج إلى إجابات وإيضاحات

أوّلًا، الأَناجيل 

إذا أردنا ان نعرف شيئًا عن شخص لم نعاصره ولم نعش معه لا بُد أن نرجع إلى من عاشوا معه وعاصروه وكانوا شهود عيان على سيرته. في هذه الحالة، ونحن نتكلّم عن شخص الرب يَسُوع المَسِيح لا بُد أن نرجع إلى تلاميذه ومعاصريه؛ شهود العيان الحقيقيين الذين عاشوا معه وسمعوا تعاليمه ورأوا معجزاته. يقول الرسول يوحنا الحبيب «اَلّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الّذِي سَمِعْنَاهُ، الّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأبديّة التي كَانَتْ عِنْدَ الآب وَأُظْهِرَتْ لَنَا. الّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ» (رسالة يوحنا الأولى 1: ١-٣)، ويقول الرسول بُطرس «لأَنّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنّعَةً، إِذْ عَرّفْنَاكُمْ بِقُوّةِ رَبّنَا يَسُوع المَسِيح وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ» (بطرس الثانية 1: 16).

إن يَسُوع المَسِيح الناصري، هو الشخصية الرئيسية والمحورية في كل العَهد الجَديد، فأحداث حياته وموته وقيامته تعتبر مركز كل الأسفار. ومع أن رسائل العَهد الجَديد تتحدّث عن موته وقيامته إلا أن البشائر الأربع (متّى ومرقُس ولُوقا ويوحنا) هي المصدر الأساسي لمعرفة حياة يَسُوع المَسِيح وخدمته الأرضية. لكن السؤال الذي يطرحه المشكّكون هو: هل يمكننا أن نعتمد على الأَناجيل في الحصول على معرفة حقيقية عن شخص يَسُوع؟ وما مدى مصداقية الأَناجيل؟ وهل الأناجيل لم تُحرف؟

إن أغلب الكتب التي تتناول سيرة وحياة المشاهير كتبها من عاصروهم وبالأخص أولئك الذين ينتمون إلى الدائرة الضيقة ممن عاشوا معهم وعاصروا الأحداث والمواقف التي مرّوا بها. وشهادة هؤلاء المعاصرين مُهمّة لأنها شهادة شاهد العيان الذي يكتب عن معرفة شخصية ودراية بتفاصيل الأحداث، وبالأماكن الجغرافية، وبالأحوال الاجتماعية والسياسية. وهذه الشهادة لها مصداقية تاريخية كبيرة لأن الكُتاب يكتبون وهم يعلمون أن كثيرين من الأحياء عاصروا نفس الأحداث وأن مصداقيتهم سيكون لها صدى ورد فعل بالقبول أو الرفض، بالتصديق أو التكذيب.

تعريف الإنجيل 

قلنا آنفًا إن كلمة إنجيل تعني «الخبر السار» عن يَسُوع المَسِيح، وهي تأتي من كلمة يُونانيّة تعني إعلان خبر سار ومفرّح. في العالم اليُونانيّ-الرُومَاني القديم كانت الكلمة إونجليون تستخدم عند إعلان النصر العسكري على الأعداء. وفي العهد القديم تستخدم كلمة بُشرَ «خبر مفرح، ومنها تأتي الكلمة مبشر» أي من يحمل وينقل البُشرىَ المفرحة» (إشعياء 40: 9 -10). الخبر السار هو مُلك الله وسيادته على كل الأرض، ولهذا فالله وحده هو القادر على خلاص وإنقاذ شعبه. عندما يأتي المسيّا الخلص،سيُنادي بالأخبار السارة التي ينتظر سماعها الإنسان المسكين والمأسور «رُوحُ السّيّدِ الرّبّ عَلَيّ، لأن الرّبّ مَسَحَنِي لأُبَشّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيّين بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ» (إشعياء 61: 1).

تمثّل الأناجيل الأربعة (متّى ومرقُس ولُوقا ويوحنا) 46 % من العَهد الجَديد، وقد وضعتها الكنيسة الأولى في مقدّمة العَهد الجَديد لأنها تُعتبر الأساس الّذي عليه يُبنى بقية العَهد الجَديد كله (أَعمَال الرُّسُل والرسائل). كما تقدّم ألأناجيل الأربعة صورة مضغوطة وصادقة لشخص الرب يَسُوع المَسِيح وحياته وخدمته. فمن خلال البشائر يمكننا أن نرى حقيقة شخصه المبارك؛ الكلمة المتجسد، صاحب السلطان، والعبد الّذي جاء ليخدم ويضع نفسه من أجل الخطاة. وكل بشارة تضيف بُعدًا جديدًا ليَسُوع ولهذا فالبشائر تكمّل الصورة ذاتها لكن من زاويا مختلفة. إنها بمثابة رصد لحدث واحد، لكنها أربعة تقارير لنفس الحدث مع اختلاف الجهة التي يُكتب إليها التقرير والغاية التي ينبغى أن يحقّقها كل كاتب.
لقد كُتبت الأَناجيل بغرض تسجيل تاريخ حياة المَسِيح، ولتعضيد إيمان المؤمنين به، ولتقديم إجابة شافية عن طبيعة شخصه وعمله الفدائي، فالأناجيل تقدّم للمؤمنين فهمًا كاملًا عن هذا الشخص العجيب الذي عاش وخدم وعلّم ومات وقام، كما أنها كُتبت لغرض كرازي أيّ لتقديم المَسِيح للعالم سواء لليَهُود أو للأمم. لهذا تُعتبر لأَناجيل الأربعة تاريخًا حيًا لا يمكن وصفه بكلمة أبلغ من كلمة «شهادة». نعم إنها شهادة حيّة لشهود أمناء عاشوا مع الرب يَسُوع المَسِيح وعرفوه عن قرب.

إنجيل متّى: 
يُقدّم لنا المَسِيح باعتباره ملك اليَهُود أو المسيّا المنتظر، فسلسلة نسب المَسِيح هي تحقيق لنبؤات العهد القديم، ولهذا فسلطان المَسِيح نابع من أنه هو المسيّا الّذي تكلّمت عنه وعن مجيئه نبؤات العهد القديم.

إنجيل مرقُس:  
يُقدم مرقس المَسِيح كالخادم الذي أتى ليخدم احتياجات البشر وليقدم نفسه فدية عن كثيرين (مرقس 10: 45). أربعين بالمائة من ماددة إنجيل مرقس تركز على الأسبوع الأخير ليَسُوع قبل صلبه.

إنجيل لُوقا:  
يقدّم لنا يَسُوع المَسِيح ابن الإنسان الكامل الذي تنصب خدمته وإرساليته في «أنه جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك»، فالمَسِيح كامل في ذاته وآلامه وعمله الفدائي.

إنجيل يوحنا:  
يقدّم المَسِيح ابن الله الأزلى الذي يضمن حياة أبدية لكل من يؤمن به. لقد اختار يوحنا سباعيات ليبرهن بها على لاهوت المَسِيح، فهو يُسجّل لنا سبع معجزات للمسيح وسبع إعلانات للمسيح عن نفسه «أنا هو» وسبع شهود يشهدون عن حقيقة شخصه ولاهوته. وينقسم الإنجيل إلى قسميْن أساسييْن: قسم الأعمال (1-12) وقسم الأحاديث (13-19). لقد كُتبت الأَناجيل الأربعة بعد فترة ليست بطويلة من قيامة يَسُوع وصعوده، وقد كتبها شهود عيان عاشوا وعاصروا الأحداث، فالفترة الزمنية بين حياة يَسُوع وكتابة آخر أسفار العَهد الجَديد لا تتجاوز سبعين سنة، والأَناجيل -بصفة خاصة الأَناجيل الثلاثة الأولى- كُتبت قبل سنة 70م أي خلال فترة تقل عن أربعين سنة من صعود الرب يَسُوع، وفي هذه الفترة كان كثيرون من شهود العيان ما زالوا أحياءً، ويقينًا كان هؤلاء الشهود ينقسمون إلى مؤمنين بالمسيح وغير مؤمنين به، ويمكن لأي من الفريقيْن تكذيب ما كُتب في الأَناجيل لو أن المكتوب ناقض الحقائق التي تمت أمام عيونهم على أرض الواقع.

كيف يُمكننا أن نحكم صِحّة وثيقة ما تاريخيًا؟ 

أوّلا، إن كُتّاب التاريخ وكُتّاب السيرة يميلون للكتابة عن تاريخ حديث وليس تاريخًا قديمًا، حيث تكون الأحداث والمواقف والأشخاص ما زالت في الذهن، وبالتالي تكون المعلومات التي يكتبونها حديثة. ثانيًا، يُقارن الكتاب بأية كُتب أخرى كُتبت عن نفس الشخص أو الحدث، مع اختلاف الأسلوب، إلا أن الأحداث لا بد وأن تكون واحدة. إذا طبّقنا هذا على الأَناجيل، نعلم أن البشير مرقُس كتب إنجيله أولًا، بل قد يكون كتب في الجيل الأوّل بعد المَسِيح حينما كان أغلب شهود العيان أحياء. كما أن إنجيل يوحنا الذي يعتبر آخر الأَناجيل كُتب سنة 90م، وبذا يكون قد كُتب بعد موت المَسِيح وقيامته بـ 55-60 سنة وهي فترة قليلة زمنيًا إذا ما قُورنت بالكتابات التاريخية الأخرى التي كُتبت عن أشخاص آخرين.
السؤال الأوّل الذي يجب أن نسأله والمتعلّق بمصداقية الأَناجيل هو متى كُتبت الأَناجيل؟ والسؤال الثاني هو «من كتبها؟» هذان السؤالان مُهمّان جدًا فلو الأَناجيل التي تتحدّث عن حياة المَسِيح كُتبت بعد صعود المسيح بفترة طويلة، أي بعد موت شهود العيان، لما وُجد من يؤكّد صدق الحدث، ويكون هناك احتمال كبير للخطأ، فكل الأساطير القديمة المُتعلّقة بأشخاص كُتبت بعد موتهم بأكثر من 200 سنة، لكن إذا كانت الأَناجيل قد كتبها شهود عيان ووُجد شهود عيان آخرون أحياء تكون مصداقيتها قد تأسّست، ولا يُوجد من ينفى تاريخية ما تم تسجيله من أحداث. إن البشائر الأربع كُتبت والتلاميذ ما زالوا أحياء. فالبشير متّى مثلًا كتب إنجيله قبل موت يوحنا الحبيب بسنين كثيرة، وإنجيل متّى ذكر أشياء كثيرة ارتبطت بيوحنا، فإذا كانت هذه الأحداث غير حقيقية كان من المُمكن ليوحنا أن يكتب مُكذّبًا ومصحّحًا ما كتبه متّى، وهذا يجعل متّى في كتابته يتوخّى الحذر الشديد والدقة المتناهية إذ يوجد من يراقب ويحاسب.
إن أغلب كُتّاب العَهد الجَديد كانوا شُهود عيان، فبُطرس يقول «لأَنّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنّعَةً، إِذْ عَرّفْنَاكُمْ بِقُوّةِ رَبّنَا يَسُوع المَسِيح وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ» (2بُطرس 1: 16). كما يقول البشير يوحنا «الّذِي سَمِعْنَاهُ، الّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا» (1يوحنا 1: 1). كما أن رسائل الرسول بُولُس للكنائس تعتبر من أقدم كتابات العَهد الجَديد وقد كُتبت في الفترة من منتصف أربعينيّات وحتى منتصف ستينيّات القرن الأول، أي أنها كُتبت بعد المَسِيح بـ 12-33 سنة، ولهذا يُعتبر عدد كبير من علماء العَهد الجَديد أن البرهان على تاريخية المَسِيح يبدأ من رسائل الرسول بُولُس.

إستحالة التحريف 

"الإنجيل مُحرف" عبارة نشأنا على سماعها في مجتمعاتنا العربية الاسلامية يرددها المسلمون في كل حوار او نقاش عن الايمان المسيحي. فهل فعلاً كتابنا المقدس قد حُرف؟ وهل يمكن ان يثبت المدعي هذا الادعاء منطقياً وتاريخياً بالادلة؟ ام انه مجرد إدعاء ناتج عن عدم الفهم الصحيح ولا يوجد دليل واحد يمكن ان يقدمه ليبرهن به على ان الكتاب المقدس قد حُرف؟ اريد هنا بأختصار اجيب على بعض الاسئلة المتعلقة بالادعاء ان الكتاب المقدس محرف. السؤال الأول الذي يحتاج إلى إجابة واضحة هو "من الذى حرف الكتاب المقدس؟" هل حرفه اليهود ام المسيحين؟ فإذا كان قد حرف، كما يدعون، فلابد لهذا الفعل من فاعل؟ فمن هو الفاعل؟ من الذى امتدت يده الى الكتاب المقدس عن قصد ام غير قصد فقام بتحريفه؟ هل حرف اليهود كتابهم والمسيحين حرفوا كتابهم أم اتفقوا وحرفوا الكتابين؟ اعتقد الاجابة على هذا السؤال مهمة جداً. ولهذا فسوف احاول ان اذهب الى المتهمين الاساسيان لعملية التحرف وهما اليهود والمسيحين واحاول ان اصل الى إجابة واضحة من كل منهما عن من قام بتحريف الكتاب المقدس، مع ان الرب قال بكل وضوح "أنا ساهر على كلمتي لاجريها (أرميا 1: 12) وقال ايضاً "السماء والارص تزولان ولكن كلامي لا يزول" (متى 24: 35).

اليهود 

إضافة الى ما نعرفه عن دقة اليهود في التعامل من النص الكتابي وخوفهم الشديد من التعرض لقضاء الله إذا حدث خطأ ما في كتابة التوراة والاسلوب الى كانوا ومازالوا يتبعونه في نسخ المخطوطات حتى يضمنوا سلامتها. السؤال المنطقي هو لماذا يحرف اليهود الكتاب المقدس؟ بأي غرض او قصد ؟ ما الذى في الكتاب المقدس من إشياء تجعلهم يفكرون بحسب الادعاء ان يحرفوا الكتاب المقدس؟ قبل ان اجيب على هذ الاسئلة اريد عزيزي القارئ ان تفكر معي في مضمون النسخة التى حرفها اليهود، ما هو مضمونها ومحتواها، وما هي الاشياء التى حذفوها منها لتتناسب مع رغباتهم وتطلعاتهم. فمثلاً:

  • النسخة الجديد سوف تكون خالية من اى فعل او قول مخزي قام به قادتهم وملوكهم وانبيائهم؟ بمعنى انهم سوف يظهرون إبراهيم واسحق ويعقوب وموسى وداود...الخ بدون عيوب او ضعفات او اخطاء. فهل هذا فعلا ما تم؟ بالتأكيد لا ، فالعهد القديم مازال يتحدث عن سكر وعري نوح وكذب أبيهم إبراهيم ومكر وخداع يعقوب، وغضب موسى وخطيته وخطيئة داود الذى زنى وقتل، كذلك انحراف سليمان وبعده عن الرب في اخر ايامه وهروب أيليا وطلبه للموت وهروب يونان نبي الرب...الخ.
  • النسخة الجديد سوف تظهر اليهود على انهم افضل من كل الامم، الشعب المطيع للرب والحافظ لوصاياه. واحدة من الدوافع التى تدفع الانسان للكذب هي الرغبة في تحسين صورته. فهل صورة اليهود في الكتاب المقدس صورة جيدة؟ بالتأكيد لا، الصورة التى يرسمها العهد القديم عنهم صورة تمتلئ بالتشوهات، تشوهات الخطية والاثم والتمرد والحيدان عن الرب الإله. فأكثر الشعوب التى وصفها الرب بأنهم قساة الرقاب ومتمردين وغير شاكرين هم اليهود. فبمجرد خروجهم من أرض العبودية من مصر تذمروا على الرب "فَتَذَمَّرَ كُلُّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ فِي الْبَرِّيَّةِ. 3وَقَالَ لَهُمَا بَنُو إِسْرَائِيلَ: «لَيْتَنَا مُتْنَا بِيَدِ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مِصْرَ، إِذْ كُنَّا جَالِسِينَ عِنْدَ قُدُورِ اللَّحْمِ نَأْكُلُ خُبْزًا لِلشَّبَعِ. فَإِنَّكُمَا أَخْرَجْتُمَانَا إِلَى هذَا الْقَفْرِ لِكَيْ تُمِيتَا كُلَّ هذَا الْجُمْهُورِ بِالْجُوعِ» (خروج 16: 2 و 3). كما ان شعب إسرائيل انحرف سريعا وترك عبادة الرب الحقيقي ليعبد الاوثان "فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اذْهَبِ انْزِلْ. لأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ الَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. زَاغُوا سَرِيعًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْصَيْتُهُمْ بِهِ. صَنَعُوا لَهُمْ عِجْلاً مَسْبُوكًا، وَسَجَدُوا لَهُ وَذَبَحُوا لَهُ وَقَالُوا: هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ» (خروج 32: 7 و 8). ولهذا نجد نصوص كثيرة في العهد القديم تتحدث عن الويلات التى تعهد بها الله شعبه المتمرد. «وَإِنْ كُنْتُمْ بِذلِكَ لاَ تَسْمَعُونَ لِي بَلْ سَلَكْتُمْ مَعِي بِالْخِلاَفِ، فَأَنَا أَسْلُكُ مَعَكُمْ بِالْخِلاَفِ سَاخِطًا، وَأُؤَدِّبُكُمْ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ حَسَبَ خَطَايَاكُمْ، فَتَأْكُلُونَ لَحْمَ بَنِيكُمْ، وَلَحْمَ بَنَاتِكُمْ تَأْكُلُونَ. وَأُخْرِبُ مُرْتَفَعَاتِكُمْ، وَأَقْطَعُ شَمْسَاتِكُمْ، وَأُلْقِي جُثَثَكُمْ عَلَى جُثَثِ أَصْنَامِكُمْ، وَتَرْذُلُكُمْ نَفْسِي. وَأُصَيِّرُ مُدُنَكُمْ خَرِبَةً، وَمَقَادِسَكُمْ مُوحِشَةً، وَلاَ أَشْتَمُّ رَائِحَةَ سَرُورِكُمْ. وَأُوحِشُ الأَرْضَ فَيَسْتَوْحِشُ مِنْهَا أَعْدَاؤُكُمُ السَّاكِنُونَ فِيهَا. وَأُذَرِّيكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ، وَأُجَرِّدُ وَرَاءَكُمُ السَّيْفَ فَتَصِيرُ أَرْضُكُمْ مُوحَشَةً، وَمُدُنُكُمْ تَصِيرُ خَرِبَةً." (لاويين 26: 27 -34). كما يصفهم الرب في سفر إشعياء فيقول "اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ». وَيْلٌ لِلأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ، الشَّعْبِ الثَّقِيلِ الإِثْمِ، نَسْلِ فَاعِلِي الشَّرِّ، أَوْلاَدِ مُفْسِدِينَ! تَرَكُوا الرَّبَّ، اسْتَهَانُوا بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ، ارْتَدُّوا إِلَى وَرَاءٍ. عَلَى مَ تُضْرَبُونَ بَعْدُ؟ تَزْدَادُونَ زَيَغَانًا! كُلُّ الرَّأْسِ مَرِيضٌ، وَكُلُّ الْقَلْبِ سَقِيمٌ. مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ" (1: 2- 7).
  • النسخة الجديدة سوف تخلو من اى نبؤات عن الرب يسوع. فعداء اليهود للمسيح عداء بدأ منذ ان دخل المسيح، كلمة الله ،الى عالمنا بالتجسد، فها هو هيرودس يقتل كل اطفال بيت لحم حتى يتخلص من المسيح. حتى عندما بدأ المسيح خدمته الارضية كان اليهود يعادونه ويتربصون به ليلاً نهاراً، إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله. فهم الذين سلموه وحكموا عليه بالصلب والموت. هذا العداء مستمر إلى يومنا هذا وهو سبب كافي يجعل اليهود يتخلصون من كل النبوات التى تتحدث عنه في كتابهم ولكنهم لم يحذفوا حرفاً واحداً منها. الم يكن باستطاعة اليهود ان يحذفوا نبؤات مباشرة عن الرب يسوع من كتابهم، لكننا ما زلنا نجد كل النبوات كما هي، نبوات تتحدث عن طبيعته و ميلاده العذراوي وخدمته وصلبه وموته وكذلك قيامته...الخ.
  • اليهود يعتبرون العهد القديم رسالة حب من الله ولهذا فلا يمكن ان تمتد اليه ايديهم بالتحريف. انهم يعشقون كل سفر وكل أية وكل كلمة وكل حرف من العهد القديم.

المسيحين 

من الامور المسلم بها هي استحالة ان يكون المسيحين قد قاموا بتحريف العهد القديم وذلك لعدة اسباب منها.
  • تقديس اليهود للعهد القديم ككلمة الله وتربص اليهود للمسيحين.
  • وجود عدد هائل من المخطوطات في المجامع اليهودية المنتشرة في مناطق كثيرة من العالم سواء في اليهودية وبابل واسيا الصغرى والاسكندرية وحتى روما.
  • وجود الترجمة السبعينية LXX، وهي ترجمة العهد القديم إلى اللغة اليونانية بأمر من بطليموس فيلاديلفوس سنة 285 ق.م
  • اعتبرت الكنيسة الاولى منذ نشأتها يوم الخمسين ان العهد القديم هو الكتاب المقدس، الموحى به من الله (تيموثاوس الثانية 3: 16) ولهذا اختل العهد القديم مكان الصدارة في تعاليم الرسل.
  • التوافق الكامل بين العهد القديم والجديد، فالعهد القديم متضمن الجديد والجديد محقق للقديم. فعدد النبؤات التى تتحدث عن المسيح في العهد القديم تتجاوز 300 نبؤة وإشارة مباشرة وغير مباشرة.
  • على الرغم من وجود إختلافات عقائدية بين الطوائف المسيحية إلا انها اتفقت واجمعت على صحة الكتاب المقدس. كذلك من الغير معقول ان يحرف المسيحين العهد الجديد الذى انتشرت مخطوطاته في القارات الثلاث وترجم الى عدة لغات واقتبس منه أباء الكنيسة كل العهد الجديد ما عدا 11 اية فقط.
أسئلة تبحث عن إجابات 
  1. متى تم التجريف وفي اى عصر؟
  2. كيف أمكن جمع كل النسخ من جميع بلاد وقارات العالم؟
  3. هل تم تحريف كل النسخ وإعادتها لاصحابها أم تم إعدامها ونشر الجديد عوضا عنها؟
  4. هل يعقل ان لا تنجو نسخة واحدة من هذه النسخ القديمة؟
  5. اين تم التحريف؟ في اى مكان وتحت اشراف من؟ ومعروف أن الكتاب المقدس قد انتشر في كل بلاد العالم، في أسيا وأوروبا وافريقيا ووصل إلى كل مكان حتى الهند؟ ففي اى بلد حُرف؟ أم اتفقت كل البلدان على التحريف؟
  6. في أى لغة حُرف الكتاب؟ في العربي ، اليوناني ، العبري، اللاتيني، السرياني أم القبطي؟ هل حرف في لغة واحدة؟ وهل بقيت اللغات الاخرى بدون تحريف؟
  7. هل يعقل ان يصمت كل اليهود والمسيحين الامناء دون ادنى مقاومة؟
  8. تري من قام بتحريف مخطوطات البحر الميت (قمران) والتى يرجع تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد؟
  9. كيف انتصرت المسيحية بكتاب مزيف؟ الم يكن هذا الكتاب هو الذى استخدمه الرسل والاباء ككلمة الله لتغير العالم؟
  10. هل يعقل انه خلال القرون الاولى نادت المسيحية بالمسيح الذى لم يصلب ثم مع الوقت تغير هذا الايمان ونادت بالمسيح، كلمة الله المتجسد الذى صلب وقام في اليوم الثالث؟
على المدعي ان يأتي بدليل أو برهان 

بما ان الكتاب المقدس سابق في وجوده عن القرأن باكثر من 600 سنة فعلى القرأن ان يثبت مصداقيته وعدم تحريفه وليس الكتاب المقدس. نعم أن المشكلة هي مشكلة القرأن وليس الكتاب المقدس، بمعنى على القرأن ان يثبت لنا انه غير محرف؟ على الاقل الكتاب المقدس كتبه انبياء ورسل كانوا شهود عيان، اما القرأن ورسول الاسلام فلم يكن من ضمن شهود العيان، فهو لم يعش في ذلك الزمان الذى كتب فيه الكتاب المقدس ولم يكن معاصراً لاحداثه، ولم يعش في نفس المكان ولهذا فحتى معرفتة للجغرافيا معرفة نظرية فقط. ان الرويات القرأنة المختلفة عن روايات الكتاب المقدس تحتاج ان يبرهن لنا المسلم اليوم بالبرهان والدليل انها صحيحة؟ فالنفترض انى كتبت اليوم (سنة 2018) كتاب عن الحملة الفرنسية على مصر (1789 – 1801 ميلادية) وحمل هذا الكتاب روايات مخالفة ومتناقضة عن الروايات التى كتبها شهود العيان في ذلك الوقت، فأي من الكتابين يكون صادق وحق؟ وايهما يكون محرف؟ يقول المنطق ان كتاب شهود العيان اصدق من الكتاب الذى كتبة انا، وعلى انا ككتاب ان اثبت ان روايتي غير محرفة وليس العكس.

أول من اتهم الكتاب المقدس بالتحريف كان ابن حزم سنة 1064م. هذا الاتهام وجة للمسيحية دفاعاً عن الاسلام والقرأن بالاخص بعدما قام ابن حزم بعمل مقارنة بين الكتاب المقدس والقرأن واكتشف ان هناك اختلافات وتناقضات كثيرة بينها. من منطلق ايمانه بأن القرأن هو الاعلان النهانئ لله ولهذا فلابد ان يكون صادقاً ومصصحاً لكل ما جاء قبلة وجه ابن حزم اتهام التحريف للكتاب المقدس. ببساطة منطق ابن حزم يتلخص في الاتي: اذا اختلف نص كتابي مع نص قرأني يكون الكتاب المقدس قد حرف والنص القرأني هو الصادق. فالكتاب المقدس يقول ان المسيح قد صلب ومات، اما النص القرأني فيقول لم يصلب ولم يمت، إذا وبدون اى براهين وادلة يكون الكتاب المقدس محرف والقرأن هو الصحيح. هذا الادعاء غير مؤسس على اى دليل او برهان تاريخي او حتى منطقي واحد. الدافع الوحيد هو الدفاع عن القرأن وصحته حتى لو كان بإدعاء باطل وكاذب. هذا الادعاء دفع ابن حزم ان يقول بأن الانجيل الحقيقي الذى نزل على المسيح قد فقد؟ طبعا هو لا يفهم معنى الانجيل ولا يقدم اى دليل مقنع على صدق ادعائه.

الفصل الثاني
هل كان يَسُوع مدركًا لحقيقة شخصه؟ 

من الأفضل قبل أن نتناول موضوع لاهوت المَسِيح والبراهين الّتي تؤكّده، أن نحاول الإجابة على سؤال يطرحه المشكّكون وهو "أين قال يَسُوع إنه هو المسيّا؟ وأين قال "إنّي هو الله فاعبدوني؟". إن المتشكك والمسلم يؤمنان بأن يَسُوع لم يقل أبدًا إنه هو المسيّا أو الله، ولم يقل إن رسالته لم تكن عن نفسه كإله، بل كان محورها الله الذي يجب أن يُعبد.

إن عدم قول يَسُوع "أنا الله فاعبدوني" بهذه الصراحة وذلك الوضوح لا ينفي ألوهيته فالمَسِيح قال أشياء كثيرة لا يمكن أن تصدر من إنسان عادي، وإذا صدرت من إنسان عادي يكون مجدفًا أو كذّابًا أو مجنونًا. لقد تفوّه يسوع بعبارات لا يمكن أن تصدر إلا من الله نفسه. على سبيل المثال وليس الحصر:

الملائكة هي ملائكته 

قول يَسُوع المَسِيح في متى 13: 41-42 "يُرْسِلُ ابن الإنسان مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ، وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النّارِ" لنلاحظ جيدًا كلام يَسُوع المَسِيح، فهو لم يقل إن الله يرسل ملائكته، بل قال إنّ "ابن الإنسان"، أي يَسُوع المَسِيح "يرسل ملائكته." نعلم جيدًا أن الملائكة كائنات روحية مخلوقة لخدمة الله ولا يستطيع إنسان أن يمتلك هذه الكائنات فهي فقط في خدمة الله ولتحقيق مقاصده ولهذا يقول الكِتَاب المُقدّس إنها "ملائكة الله" (لُوقا 12: 8-9، 15: 10).

يجلس على كرسي مجده ليدين 

لم يكتفِ يَسُوع المَسِيح بنسب الملائكة والملكوت لنفسه، بل قال أيضًا إنه هو الديّان الذي سيدين الأحياء والأموات. في حديثه الأخير على جبل الزيتون تحدث يَسُوع عن مجيئه فقال: "وَمَتَى جَاءَ ابن الإنسان فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشّعُوبِ، فَيُمَيّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيّزُ الرّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ" (متّى 25: 31-32). كلام يَسُوع المَسِيح عن مجيئه في المجد وجميع الملائكة القديسين معه وجلوسه على كرسي مجده ودينونته كلها براهين مباشرة تؤكّد إدراك يَسُوع المَسِيح لطبيعته وحقيقة شخصه. لا يمكن أن يقبل أي إنسان، مهما كان، أن يكون قائل هذه العبارات مجرّد شخص عادي، لأن ما ينسبه إلى نفسه حق إلهي فقط ولا يمكن أن يعطي الله مجده لآخر.

يغفر الخطايا 

كلنا نعلم جيدًا أن الله وحده هو الغافر للخطايا، لكن يَسُوع المَسِيح ادّعى هذا الحق لنفسه عندما شفى الإنسان المفلوج. تقول القصة الكتابية "فَلَمّا رَأَى يَسُوع إيمانهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». بمجرّد أن سمع معلمو اليَهُود والكتبة هذا القول قالوا في قلوبهم «لِمَاذَا يَتَكَلّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ؟" وهذه حقيقة؛ فالله وحده هو الذي له سلطان غفران الخطايا. إن ما أعلنه يسوع من سلطان لمغفرة الخطايا هو أمر يخُص الله وحده. لا تنتهي الحكاية عند هذا الحد، فعندما عرف يَسُوع ما في قلوبهم، لم يقل لهم: "أنتم على حق وأنا مخطئ، لأني سلبتُ حقًا من حقوق الله ونسبته لنفسي"، بل يدوّن الكِتَاب المُقدّس أن يَسُوع قال لهم «لِمَاذَا تُفَكّرُونَ بِهذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أم أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنّ لابن الإنسان سُلْطَانًا عَلَى الأرض أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا». قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إلى بَيْتِكَ!» أي أن يَسُوع أكّد كلامه واعتبر أن ما قاله لهذا المفلوج حقّ، وعلى السامعين أن يعلموا جيدًا أن "لابن الإنسان سُلْطَانًا عَلَى الأرض أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا" (مرقُس 2: 5 – 10).

هو والله الاّب واحد 

يُسجّل الرسول يُوحنّا الحبيب في الأصحاح الخامس من إنجيله أكثر من إعلان وتصريح نطق بهما يَسُوع المَسِيح كلها تشير إلى ألوهيته؛ أي إدراكه لحقيقة شخصه أنه الله الظاهر في الجسد. فعندما شفى يَسُوع الإنسان المفلوج الذي كان له ثماني وثلاثين سنة مقعدًا يستعطى منتظرًا من يلقيه في البركة ليُشفى، تذمّر اليَهُود ومعلِّمو الناموس لأن يَسُوع شفى هذا الإنسان في أحد السبوت، واتهموه بأنه بهذا الشفاء نَقَضَ الوصية الإلهية التي تقضي بحفظ يوم السبت وتقديسه. فأجابهم يَسُوع قائلًا «أَبِي يَعْمَلُ حَتّى الآن وَأَنَا أَعْمَلُ». فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ الْيَهُود يَطْلُبُونَ أكثر أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأنه لَمْ يَنْقُضِ السّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أيضًا إِنّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلًا نَفْسَهُ بِاللهِ" (يُوحنّا 5: 7 – 8). هنا، وبحسب فكر اليَهُود، ارتكب يَسُوع خطيئتيْن جسام يستحق بسببهما الموت، الأولى أنه نقض يوم الرب عندما شفى المفلوج في السبت، والثانية أنه بقوله "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" قال إنّه معادلٌ لله. لكن كيف فهم اليَهُود قول يَسُوع "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل"؟ هل فهموا أنه يساوي ويعادل نفسه بالله؟ لقد توصّل علماء اليَهُود إلى إجابة واضحة للسؤال القائل "هل الله الذي أعطى وصية السبت هو نفسه يحفظ السبت أم يكسره؟" قد يبدو هذا السؤال سؤالًا فلسفيًا افتراضيًا، لكنه بالنسبة للفكر اليَهُودي سؤال مُهم وجوهري. فلا يمكن أن يكون الله الذي أعطي السبت هو نفسه يكسر السبت. فالله كخالق قد أكمل كُلّ عمل الخلق مع نهاية اليوم السادس، وصار اليوم السابع راحة لله. لكن هذا لا يمنع الله من القيام بأعمال العناية الإلهية تجاه خليقته، لهذا فالله لا يعمل يوم السبت بمعنى أنه لا يخلق، لكنه في نفس الوقت كمسؤول عن خليقته يقوم بأعمال العناية كُلّ يوم بل كُلّ ساعة ولحظة. لهذا عندما قال يَسُوع المَسِيح "أبي يعمل حتى الآن ..." كان يقصد أن الله يقوم بأعمال العناية بخلائقه، لكن المشكلة في كلام يَسُوع هي العبارة الأخيرة "وأنا أعمل". لقد ساوى المَسِيح نفسه بالله الذي يعمل دائمًا ويعتنى بخليقته حتى في يوم السبت. وبالطبع كانت هذه العبارة في نظر اليَهُود عبارة تجديف يستحق قائلها الموت، لأجل هذا كانوا يطلبون أكثر أن يقتلوه.

صوته يقيم الموتى من القبور 

في نفس الحوار مع اليَهُود قال المَسِيح للكتبة إنه يقيم الموتى "لاَ تَتَعَجّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الّذِينَ فَعَلُوا الصّالِحَاتِ إلى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالّذِينَ عَمِلُوا السّيّئَاتِ إلى قِيَامَةِ الدّيْنُونَةِ" (يُوحنّا 5: 28 – 29). ففي الساعة الّتي عيّنها الله للدينونة سيسمع جميع الذين في القبور صوته (أي صوت يَسُوع المَسِيح)، فصوت يَسُوع يحيي الأموات ويقيمهم من قبورهم. فجميع الذين تحلّلت أجسادهم وعادت إلى التراب ولم يبقَ منهم شيء، بل حتى الذين ماتوا في البحر وأكلهم السمك سيقومون من الموت عند سماع صوته في اليوم الأخير. من هو هذا؟ من هو صاحب الصوت القادر على إقامة جميع الذين في القبور؟! أيمكن أن يكون هذا مجرّد إنسان عادي؟ كيف يمكن لله أن يعطي أخص اختصاصاته لآخر؟ هل يمكن أن يشارك أحد المخلوقات في أعمال تخص الله وحده؟ من يشارك الله قدرته المطلقة؟ إن حقيقة قيامة الأموات هذه برهنها يَسُوع أكثر من مرّة في حياته وخدمته على الأرض، فيَسُوع أقام ابنه يايرس، وابن أرملة قرية نايين، ولعازر الذي كان قد أنتن في القبر. بكلمة واحدة وبأمر واضح خرج من فمه الطاهر قام هؤلاء الموتى من بين الأموات. وكما اخترق صوته قبر لعازر عندما ناداه قائلًا: "لعازر هلم خارجًا" سيخترق صوتُه جميع القبور في كُلّ مكان ويأمر أرواح البشر أن تلبس أجسادهم من جديد لتقوم من الأموات، الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة. ويؤكّد الكِتَاب المُقدّس أن الدينونة الأخيرة هي عمل الله وحده (تثنية 1: 17، إرميا 25: 31، رُوميَة 2: 3؛ 5 – 6، 1بُطرس 1: 17)، إلا أن يَسُوع المَسِيح هو المعيّن من الآب لدينونة كُلّ البشرية وحكمه هو الذي سيقرّر مصير الإنسان سواء الحياة الأبديّة أم الهلاك الأبديّ (متّى 25: 46 ويُوحنّا 5: 29)، ولكي تتم الدينونة فلا بد للديّان أن يكون له سلطان على إقامة الأموات حتى يدانوا، وها هو يَسُوع المَسِيح يؤكّد أنه يملك السلطان المطلق، وهو الذي سيسمع جميع الذين في القبور صوته فيقومون.

له الكرامة الإلهية 

ماذا عن الكرامة الإلهية؟ هل يمكن لإنسان مهما علا شأنه أن يكون له نفس كرامة الله؟ قال يَسُوع المَسِيح "لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابن كَمَا يُكْرِمُونَ الآب. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الابن لاَ يُكْرِمُ الآب الّذِي أَرْسَلَهُ" (يُوحنّا 5: 23). كيف يكون للمسيح نفس إكرام الله؟ هل يقصد يَسُوع أن يقول هنا إن كرامة المُرسَل هي من كرامة المرسِل، ومن يقبل المرسَل يقبل المرسِل؟ أم أن الأمر كما يقول البعض إن الإكرام الواجب لله يعني السجود والعبادة أما إكرام يَسُوع فهو مجرّد التقدير والاحترام؟ قطعًا هذا التفسير لا يتماشى مع الكلام الواضح ليَسُوع المَسِيح "من لا يكرم الابن لا يكرم الآب"، فإكرام الابن ليس متروكًا لاختيار الإنسان ولمزاجه، فمن بيده الدينونة، والموت والحياة، يُكرَم إمّا بالإيمان به أو بالدينونة بواسطته يوم الدينونة؛ اليوم الذي فيه تسجد ليسوع كُلّ ركبة ويعترف به كُلّ لسان.

حياة وخدمة يَسُوع المَسِيح 

امتدت خدمة يَسُوع المَسِيح العلنيّة منذ لحظة المعمودية وحتى صعوده إلى السماء، وهي فترة تتجاوز ثلاث سنوات من الخدمة الّتي امتدت لتشمل معظم اليَهُودية والجليل وحتى السامرة. خلال هذه الفترة ومن خلال حياته وتعاليمه ومُعجزاته أعلن يَسُوع المَسِيح، مرّات ومرات، عن حقيقة شخصه وأنه هو الابن الأزلي الوحيد الذي له طبيعة وصفات الله ويعمل أعمال الله نفسه. يُسجِّل لنا البشير متّى الموعظة على الجبل (متّى 5 – 7) والمُعجزات الكثيرة الّتي صنعها يَسُوع المَسِيح (متّى 8-9)، حتى يوقفنا منبهرين ومتعجّبين من الحكمة الخارجة من فم الرب يَسُوع المَسِيح، فالموعظة الّتي نطق بها يَسُوع لم ولن ينطق أحد بمثلها. هنا يتكلّم المَسِيح الذي من السماء بكلام السماء، الموعظة الّتي يقول فيها "سمعتم أنه قيل...أما أنا فأقول." لقد نظر يَسُوع إلى شخصه وذاته على أن له نفس السلطان الإلهي الذي ليهوه، الذي أعطى شعبه الناموس والوصايا، فقدّم التفسير الصحيح للناموس وأعطاه البعد الإلهي الذي قصده الرب أن يكون ولهذا كان يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيّين. هذا السلطان مبني على طبيعة شخصه؛ فلم يكن يَسُوع يناقض الناموس بل جاء لكي يحقّقه ويتمّمه لهذا قال «لاَ تَظُنّوا أَنّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النّامُوسَ أو الأنبياء. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمّلَ. فَإِنّي الْحَقّ أَقُولُ لَكُمْ: إلى أَنْ تَزُولَ السّمَاءُ وَالأرض لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أو نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النّامُوسِ حَتّى يَكُونَ الْكُلّ" (5: 17 -18). إن "الناموس والأنبياء" مصطلح يُشير إلى كُلّ أسفار العهد القديم. فأسفار العهد القديم كلها تشير إلى مجيء المَسِيح وتتحدّث عن شخصه، عمله، فدائه، فالمَسِيح هو محور وهدف العهد القديم، ومجيء المسيح هو تحقيق وكمال هذا الإعلان. كان يَسُوع المَسِيح يعلم جيدًا أنه كشخص أعظم من كُلّ الأنبياء والملوك والكهنة الذين أتوا قبله، فهو محور وغاية وهدف نبوات العهد القديم كله، ولهذا فهو الوحيد الذي له السُلطان أن يفسِّرها تفسيرًا حقيقيًا ويحقّقها في شخصه.

هذا الشخص العجيب كان يجول ليصنع خيرًا. كان يشفي المرضى، ويُحرّر المقيدين بالأرواح الشريرة، ويقيم الموتى، ويشبع الجياع. هذا معناه أن يَسُوع المَسِيح كان له سلطان على كُلّ أنواع الأمراض، وعلى الأرواح الشريرة، بل وعلى الموت والطبيعة. لقد برهنت المُعجزات الّتي صنعها على أنه شخص غير عادي؛ له صفات الربوبية من قدرة وسلطان وحضور. سجّلت الأناجيل الأربعة أكثر من ستٍ وثلاثين معجزة صنعها يَسُوع المَسِيح بخلاف معجزة دخوله إلى العالم (الميلاد العذراوي) ومعجزة قيامته من بين الأموات (ثلاث مُعجزات قيامة، وتسعة عشرة معجزة شفاء، وتسع مُعجزات مرتبطة بسلطان يَسُوع على الطبيعة، وخمس مُعجزات لإخراج الشياطين). طبعا كُلّ هذه المُعجزات هي مُعجزات مُنتقاة وليست كُلّ ما صنع يَسُوع لأن الكِتَاب المُقدّس يقول عنه إنه: "كَانَ يَسُوع يَطُوفُ كُلّ الْجَلِيلِ يُعَلّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلّ مَرَضٍ وَكُلّ ضَعْفٍ فِي الشّعْب" (4: 23) ويقول مرقُس: "وَحَيْثُمَا دَخَلَ إلى قُرىً أو مُدُنٍ أو ضِيَاعٍ، وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ" (6: 56)، ويؤكّد يُوحنّا الحبيب هذه الحقيقة، أن يَسُوع صنع آيات آخر كثيرة لم تُكتب "وَآيَاتٍ آخر كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوع قُدّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هذَا الْكِتَابِ. وَأَمّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنّ يَسُوع هُوَ المَسِيح ابن اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إذا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ» (يُوحنّا 20: 30 -31).

لقد صنع يَسُوع المَسِيح ما لا يمكن أن يعد أو يحصى من المعجزات، إلا أن عدد المُعجزات المدونة في الأَناجيل هي ستٍ وثلاثين معجزة، وهذه المُعجزات مصنّفة كما يلي:

  1. مُعجزات متعلّقة بسلطانه على الطبيعة 
    1. تحويل الماء إلى خمر (يُوحنّا 2: 1 – 11 ).
    2. تهدئة العاصفة والبحر (متّى 8: 23، مرقُس 4: 35، لُوقا 8: 22).
    3. المشى على الماء (متّى 14: 25، مرقُس 6: 48).
    4. إكثار السمك في الشباك (لُوقا 5: 1 – 11).
    5. إشباع خمسة آلاف رجل بالإضافة إلى النساء والأطفال (متّى 14: 13، مرقُس 6: 30، لُوقا 9: 10).
    6. إشباع الأربعة آلاف رجل (متّى 15: 32، مرقُس 8: 1).
    7. السمكة الّتي فيها إستارًا (درهمان) (متّى 17: 24).
    8. شجرة التين الّتي يبست بكلمة (متّى 21: 18 – 22، مرقُس 11: 12).
    9. إكثار السمك للمرّة الثانية (يُوحنّا 21: 1- 11).
  2. مُعجزات شفاء المرضى
    1. شفاء وتطهير الأبرص (متّى 8: 2، مرقُس 1: 40، لُوقا 5: 12).
    2. شفاء عبد قائد المئة (متّى 8: 5).
    3. شفاء حماة بُطرس (متّى 8: 14، مرقُس 1: 30، لُوقا 4: 38).
    4. شفاء المفلوج (متّى 9: 2، مرقُس 2: 3، لُوقا 5: 18).
    5. شفاء نازفة الدم (متّى 9: 20، مرقُس 5: 25، لُوقا 8: 43).
    6. شفاء الأعميّين (متّى 9: 27).
    7. شفاء إنسان يده يابسة (متّى 12: 9، مرقُس 3: 1، لُوقا 6: 6).
    8. شفاء ابنة المرأة الكنعانية (متّى 15: 21، مرقُس 7: 24).
    9. شفاء الغلام الذي كان به روح شيطان (متّى 17: 14، مرقُس 9: 17، لُوقا 9: 38).
    10. شفاء الأعميّين في أريحا (متّى 20: 30، مرقُس 10: 46، لُوقا 18: 35).
    11. شفاء الأعمى في بيت صيدا (مرقُس 8: 22).
    12. شفاء المرأة المنحنية (لُوقا 13: 11).
    13. شفاء الإنسان المصاب بالاستسقاء (لُوقا 14: 1).
    14. شفاء العشرة البُرص (لُوقا 17: 11).
    15. شفاء الأصم والأعقد (مرقُس 7: 31).
    16. شفاء المولود أعمى (يُوحنّا 9: 1).
    17. شفاء أُذن عبد رئيس الكهنة (لُوقا 22: 51).
    18. شفاء ابن خادم الملك (يُوحنّا 4: 46).
    19. شفاء مريض بيت حسدا (يُوحنّا 5: 1).
  3. مُعجزات إخراج الشياطين
    1. إخراج الشياطين من مجنون كورة الجدريّين (متّى 8: 28، مرقُس 5: 1، لُوقا 8: 26).
    2. شفاء الأخرس الذي به شيطان (متّى 9: 32).
    3. إخراج الروح النجس (مرقُس 1: 23، لُوقا 4: 33).
    4. . إخراج شيطان من الغلام (متّى 17: 14 – 18، مرقُس 9: 17 – 24، لُوقا 9: 38 – 43).
    5. إخراج الشياطين من الإنسان الأعمى والأخرس (متّى 12: 22، لُوقا 11: 14).
  4. مُعجزات إقامة الموتى
    1. 34. إقامة ابنة يايرس (متّى 8: 18، 23، مرقُس 5: 22، لُوقا 8: 40).
    2. 35. إقامة ابن أرملة نايين (لُوقا 7: 11).
    3. 36. إقامة لعازر (يُوحنّا 11: 43).
ما الذي أكّدته مُعجزات يَسُوع بخصوص هويته؟ 
  • المُعجزات هي إعلان لمجيء كلمة الله؛ الابن الأزلي الذي صار جسدًا وحلّ بيننا. فيَسُوع المَسِيح صنع كُلّ المُعجزات بقوّته وبسلطانه المطلقيْن على المرض والأرواح الشريرة والموت والطبيعة.
  • المُعجزات هي إعلان عن صفات الله وطبيعته. الله القدير الذي يستطيع كُلّ شيء، فمن خلال المعجزات يتعرّف الإنسان الضعيف والمحدود على الله القوي وصاحب السلطان الذي يشفي بكلمة أو بلمسة.
  • المُعجزات تعبير عن حضور الله، ولهذا فهي تهدف إلى جذب الإنسان نحو الله المحب.
  • المُعجزات هي إعلان لمجيء الملك ومجيء ملكوته، ولهذا فهي تتطلّب أن يتجاوب الإنسان مع الملك بالتوبة والإيمان.
  • المُعجزات هي إعلان عن حب الله الفعّال نحو الإنسان، ففي بعض المرّات كان الإنسان هو الذي يأتي للمسيح، وفي مرّات أخرى كان المَسِيح يذهب للمحتاجين. الله حبٌّ وقد تجسّد هذا الحبّ في يَسُوع المَسِيح الّذي جعل نفسه متاحًا لكُلّ المحتاجين.
  • مُعجزات المَسِيح كانت تحقيقًا لنبؤات العهد القديم عن شخص المسيّا: "وَلَمّا صَارَ الْمَسَاءُ قَدّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ، فَأَخْرَجَ الأرواح بِكَلِمَةٍ، وَجَمِيعَ الْمَرْضَى شَفَاهُمْ، لِكَيْ يَتِمّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النّبِيّ الْقَائِلِ:«هُوَ أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا». (متّى 8: 16-17)، «لكِنّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمّلَهَا» (إشعياء 53: 4).
  • مُعجزات المَسِيح كانت إعلانًا عن قدرة المَسِيح على غفران الخطايا: " فَلَمّا رَأَى يَسُوع إيمانهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: «لِمَاذَا يَتَكَلّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ؟» (مرقُس 2: 5 – 7).
  • المُعجزات تأكيد على أن يَسُوع هو المسيّا: " أَمّا يُوحنّا فَلَمّا سَمِعَ فِي السّجْنِ بِأعمال المَسِيح، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَقَالَ لَهُ:«أَنْتَ هُوَ الآتِي أم نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» فَأَجَابَ يَسُوع وَقَالَ لَهُمَا:«اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحنّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهّرُونَ، وَالصّمّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيّ» (مرقُس 2: 2- 6).
لقد شفى يَسُوع كُلّ أنواع الأمراض: شفى الأبرص ونازفة الدم، وشفى الأصم والأعمى والأبكم والأعرج والمرأة المنحنية. شفى عن قُرب وشفى عن بُعد، بمجرّد

الكلمة. فوق كُلّ هذا أظهر يَسُوع سلطانه على الطبيعة، على البحر والريح والشجر والسمك...الخ.

لكن ما الذي يجعل المَسِيح مختلفًا عن بقية الأنبياء الذين صنعوا مُعجزات من قبل؟ لقد كانت مُعجزات الأنبياء محدودة من حيث الكم، بينما كانت مُعجزات المَسِيح شاملة وغطت كُلّ نواحي الحياة وكل إحتياجات الإنسان المختلفة. كانت كُلّ مُعجزات الأنبياء تُجرى بإسم الرب ولا يستطيع أحد منهم أن يتجاوز إرادة الرب، فمُوسَى مثلًا عندما تجاوز أمر الرب وضرب الصخرة بدلًا من أن يكلّمها حُرم من دخول أرض كنعان. بينما أجرى المَسِيح المعجزات بقوّته الشخصية، وبأمره هو، وبالصورة الّتي أرادها. إن مُعجزات الأنبياء كانت محدودة الغرض وضمن المسموح به للبشر، ولا تصل إلى مستوى الخلق من العدم لأن عملية الخلق محصورة في شخص الله وحده. بينما امتدت مُعجزات المَسِيح لتشمل الخلق والقيامة ومعرفة الغيب، فالمولود أعمى خَلقَ له المَسِيح عينيْن جديدتيْن، وشجرة التين يبست بكلمة منه، ولعازر قام بأمره، والطبيعة الصماء سمعت وخضعت له. نعم بالخطية دخل الموت والمرض والألم، والمَسِيح الرب وحده يغفر الخطايا ويحرّر الإنسان من نتائج الخطية.

المَسِيح ابن الله 

يُعتبر لقب "ابن الله" من الألقاب المُهمّة بل والجوهرية في فهمنا المَسِيحي لحقيقة هويّة يَسُوع المَسِيح. فالرسول يُوحنّا كتب إنجيله حتى يفهم القارئ هويّة ابن الله، وحتى يقبل ويؤمن أن يَسُوع هو المَسِيح ابن الله "وَأَمّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنّ يَسُوع هُوَ المَسِيح ابن اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إذا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يُوحنّا 20: 31). يبدأ وينتهي إنجيل يُوحنّا بوصف المَسِيح بالله، ففي الافتتاحيّة يقول يُوحنّا "وكان الكلمة الله" (1: 1) وفي الخاتمة يُسجّل اعتراف توما بحقيقة لاهوته عندما قال "ربي وإلهي" (20: 28).

لكن ماذا يعني القول إن المَسِيح هو "ابن الله"؟ بالقطع لا يعني لقب الابن، بأي شكل من الاشكال، الولادة التناسلية، بمعنى ان الآب أنجب الابن. حاشا لله! لأن الله روح، وهذه الحقيقة يعلنها ويؤكّدها الوحي الإلهي في الكِتَاب المُقدّس. لكن القول بأن المَسِيح "ابن" يشير إلى التميّز الشديد، فالمَسِيح لا مثيل له ولا أحد يساويه، فهو الفريد في نوعه، إن تفرُّد المَسِيح كابن ، ليس فقط التفرُّد الوجودي ولكن التفرُّد النوعي. أي أنه لا يوجد مثله عند الآب، فهو الأقنوم المساوي للآب في الجوهر، والموجود مع الآب منذ الأزل. لكن ما هو مضمون ومحتوى هذا التميُّز؟ للإجابة على هذا السؤال نحتاج أن ننظر إلى طبيعة العلاقة بين الآب والابن، هذه العلاقة الّتي تميّزت بالحب الأزلي والأبديّ. لهذا نقول ان تميُّز الابن يعود إلى المحبّة الكائنة في أقانيم الله، فهو الابن الحبيب. والحقيقة الّتي أعلنها الآب بنفسه كما رأينا عند المعمودية وعلى جبل التّجلّي: "هذا هو ابني الحبيب". لهذا عندما أعطى الآبُ الابنَ للعالم برهن على محبّته الشديدة للإنسان: "لأنه هكَذَا أَحَبّ اللهُ الْعَالَمَ حَتّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأبديّة" (يُوحنّا 3: 16، يُوحنّا الأولى 4: 9، رُوميَة 5: 8). هذه المحبّة الأزليّة بين الآب والابن قال عنها يَسُوع المَسِيح في صلاته الشفاعية "... لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبّ الّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ...» (يُوحنّا 17: 26). إنه " ابن مَحَبّتِهِ" (كولوسي 1: 13).

يشير لقب "ابن" أيضًا إلى المعادلة والتساوي، ولهذا هو مميَّز في إعلانه عن الله الآب، لهذا قال يَسُوع لفيلبس "اَلّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآب" (يُوحنّا 14: 9). أما تعبير "ابن الله الوحيد" فيعني أنه الشخص المميّز، وهذا التميّز يتكوّن من أربعة أمور:

  • مميّز في المحبّة لكونه الابن الحبيب
  • مساوٍ ومعادلٌ لله في الجوهر
  • مشابهٌ للآب حتى إن من يراه يرى الآب
  • أزلي.
في حديث المَسِيح مع الكتبة ورؤساء الشعب بعد أن شفى المفلوج، أكّد حقيقة مساواته كابن بالآب، كما أعلن أمورًا أخرى مهمة عن طبيعة هذه العلاقة

مع الآب. ففي قوله "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يُوحنّا 5: 17) تأكيدٌ لفكر اليَهُود القائل بأن الله، يهوه، يعمل يوم السبت لكنه لا يكسر السبت، فالوحيد الذي له حق العمل، أعمال العناية الإلهية، يوم السبت دون أن يكسر أو ينقض السبت هو الله. كلام المَسِيح عن أنه الآب يعمل وهو يعمل تأكيد ليس فقط أن الله هو أبوه لكن الأكثر من ذلك هو أنه ساوى وعادل نفسه بالله، لأنه يقوم بنفس العمل الذي عمله الله في السبت.

"فأَجَابَ يَسُوع وَقَالَ لَهُمُ: «الْحَقّ الْحَقّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الابن أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا إِلاّ مَا يَنْظُرُ الآب يَعْمَلُ. لأن مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهذَا يَعْمَلُهُ الابن كَذلِكَ. لأن الآب يُحِبّ الابن وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَعْمَالًا أعظم مِنْ هذِهِ لِتَتَعَجّبُوا أَنْتُمْ. لأنه كما أن الآب يُقِيمُ الأموات وَيُحْيِي، كَذلِكَ الابن أيضًا يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأن الآب لاَ يَدِينُ أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلّ الدّيْنُونَةِ لِلابْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابن كَمَا يُكْرِمُونَ الآب. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الابن لاَ يُكْرِمُ الآب الّذِي أَرْسَلَهُ" (يُوحنّا 5: 19 – 23).

اتحاد الآب بالابن (يُوحنّا 10: 22 – 39) 

في حديث يَسُوع المَسِيح عن الراعي الصالح في يُوحنّا 10، أكّد أن مصدر ضمان الخراف وأمانها يكمن في أنها محفوطة في يد الآب السماوي (10: 28، 29)، كما أن هذه الخراف تعتبر في الواقع عطية الآب للابن "أَبِي الّذِي أَعْطَانِي إِيّاهَا هُوَ أعظم مِنَ الْكُلّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي" فضمان الخراف هو أنها في يد الآب، إلا أن يَسُوع ينهي حديثه عن علاقة الخراف بالآب بعبارة توضّح حقيقة العلاقة بين الآب السماوي والابن المبارك، شخص الرب يَسُوع. وهذه العبارة هي قوله "أَنَا وَالآب وَاحِدٌ" (10: 30). لكن السؤال هو: ما طبيعة هذا الاتحاد بين الآب والابن؟ هل هو اتحاد مصلحة مشتركة؟ أم هو اتحاد في الهدف والغرض؟ أم هو اتحاد من نوع خاص؟ إن الوحدة أو الاتحاد بين الآب والابن هي وحدة الجوهر وتساوي القوى وهذا ما تؤكّده كلمات يَسُوع المَسِيح نفسه "وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أبديةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إلى الآبدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي" (10: 28). يؤكّد يَسُوع المَسِيح في الآية 28 حقيقة أن ضمان المؤمن يعتمد على قوة يَسُوع نفسه "وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي"، لكن في الآية اللاحقة أي 29 يقول إنّ ضمان المؤمن يعتمد على قوّة الله الآب "وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي" طبعًا لا يناقض يَسُوع نفسه في هاتيْن العبارتيْن، فالخراف هي في يده كما أنها في يد الآب السماوي، وهما الاثنان واحد في نفس الجوهر والطبيعة الإلهية. لهذا ختم يَسُوع كلامه بتأكيد الوحدة بينه وبين الآب بقوله "أَنَا وَالآب وَاحِدٌ."

بمجرّد أن سمع قادة اليَهُود عبارة "أَنَا وَالآب وَاحِدٌ" تناولوا حجارة ليرجموه، لكن يَسُوع تحدّاهم قائلًا: «أَعْمَالًا كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي. بِسَبَبِ أي عَمَل مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟» َأجَابَهُ الْيَهُود قَائِلِينَ: «لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَل حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنّكَ وَأَنْتَ إنسان تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلهًا» (10: 32- 33). إن غضب اليَهُود من يَسُوع المَسِيح لم يكن سببه الأعمال الكثيرة الّتي عملها، بل طبيعة ادعائه بأنه هو والآب واحد، ولأجل ذلك اتهموه بالتجديف. وما زاد اليَهُود غضبًا هو أن يَسُوع قال عن نفسه إنه "ابن الله" لأن لقب ابن الله يُؤكّد ألوهيته.

معرفة الابن للآب 

"فِي ذلِكَ الْوَقْتِ أَجَابَ يَسُوع وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيّهَا الآب رَبّ السّمَاءِ وَالأرض، لأَنّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيّهَا الآب، لأن هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرّةُ أَمَامَكَ. كُلّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابن إِلاّ الآب، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآب إِلاّ الابن وَمَنْ أَرَادَ الابن أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. تَعَالَوْا إِلَيّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلّمُوا مِنّي، لأَنّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأن نِيرِي هَيّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ» (متّى 11: 25-30).

هذا النص الكتابي مُهم جدًا في فهمنا لطبيعة العلاقة بين الآب والابن. هنا يُعبّر يَسُوع عمّا في داخله تجاه الآب، وفي نفس الوقت يؤكّد معرفته بطبيعة شخصه. ماذا يعلن يَسُوع المَسِيح عن نفسه في هذه الآيات؟ وما الذي جال في فكر يَسُوع عن طبيعة العلاقة بينه وبين الله الآب ؟ هذا هو أهم سؤال يُطرح ونحن نتأمّل كلمات يَسُوع في هذا النص. هناك عدّة حقائق مُهمة عن طبيعة هذه المعرفة والعلاقة المتبادلة:

  1. معرفة متساوية ومن نفس النوع:
    "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابن إِلا الآب، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآب إِلا الابن". يؤكّد يَسُوع المَسِيح؛ ابن لله، بصورة مميّزة وخاصّة جدًا شمولية هذه المعرفة المتساوية "لا أحد يعرف ... إلا". إن طبيعة هذه المعرفة بين الآب والابن تجعل يَسُوع أسمى من أن يكون مجرّد إنسان كباقي البشر. فمعرفة يَسُوع الابن للآب ليست معرفة التحصيل، أي ليست المعرفة الّتي نختبرها نحن عن طريق الخبرة وتزداد مع الزمن. إنها معرفة إلهية مطلقة أساسها طبيعة الله ولاهوته والّتي تميّزه عن باقي المخلُوقات. وكذلك فمعرفة يَسُوع المَسِيح للآب هي من نفس نوع معرفة الآب للابن. إنها معرفة أساسها طبيعة المَسِيح ولاهوته.
  2. هناك أهمية وضرورة متساوية في إعلان كُلّ منهم عن الآخر، فالآب هو مصدر الإعلان عن الابن، والابن هو مصدر الإعلان عن الآب. هذه الحقيقة أكّدها يَسُوع المَسِيح عندما قال «أَحْمَدُكَ أَيّهَا الآب رَبّ السّمَاءِ وَالأرض، لأَنّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ...وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابن إِلاّ الآب، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآب إِلاّ الابن وَمَنْ أَرَادَ الابن أَنْ يُعْلِنَ لَهُ" كما أكّدها في حديثه لبُطرس في قيصرية فيلبس عندما سأل تلاميذه: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنّي أَنَا؟» فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطرس وَقَالَ: «أَنْتَ هُوَ المَسِيح ابن اللهِ الْحَيّ!» فَأجَابَ يَسُوع وَقَالَ لَهُ: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنّ أَبِي الّذِي فِي السّمَاوَاتِ" (متّى 16: 15 – 18). إن إعلان واعتراف بُطرس بأن المَسِيح هو ابن الله الحي إعلان جاء من فوق من عند الآب الذي يعرف الابن معرفة حقيقية. لا أحد يستطيع أن يقول إنّ المَسِيح رب إلا بالروح القدس ولا يُمكننا معرفة الله الحقيقي إلا من خلال إعلان يَسُوع المَسِيح الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب، الابن الذي قال من رآني فقد رأى الآب. لقد أراد يَسُوع أن يؤكّد في هذا النص الكتابي (متّى 11: 25 – 27) أنه يتمتّع بعلاقة متساوية مع الآب الذي هو "رب السماء والأرض"، كما أن الآب يعرف الابن كذلك الابن يعرف الآب. وكما أن معرفة البشر للآب هي في يَسُوع المَسِيح وحده كذلك فمعرفة الإنسان بيَسُوع تتم من خلال إعلان الآب عنه. إن هذه المعرفة المتساوية بين الآب والابن هي معرفة لانهائية ومبنية على أساس الطبيعة اللاهوتية والصفات الإلهية.
  3. حقيقة معرفة يَسُوع للآب وحقيقة معرفة الآب للابن هي أساس دعوة يَسُوع للمتعبين "تَعَالَوْا إِلَيّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (متّى 11: 29). هذه الدعوة الإلهية للراحة نجد صداها في العهد القديم وفي كلمات الرب نفسه "التَفِتُوا إِلَيّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأرض، لأَنّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرَ" (اشعياء 45: 22). لا أحد يقدر أن يقول "تعالوا إلى وأنا أريحكم" إلا شخص الله الذي قال من قبل "التفتوا إلي واخلصوا". فيَسُوع المَسِيح هو نفسه يهوه، وكما قال يهوه في العهد القديم التفتوا إلي واخلصوا قال يَسُوع: "تَعَالَوْا إِلَيّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". إن يَسُوع المَسِيح يدعو المتعبين والثقيلي الأحمال إلى ذاته، فهو لا يقول لهم تعالوا إلى الله فيريحكم، بل يقول: "تعالوا إلي...وأنا أريحكم" وبهذا يؤكّد يَسُوع أنه هو الله الذي مازال يدعو جميع أقاصي الأرض ليخلصوا ويجدوا الراحة في شخصه المبارك.
حادثة التّجلّي 

"وَبَعْدَ سِتّةِ أَيّامٍ أَخَذَ يَسُوع بُطرس وَيَعْقُوبَ وَيُوحنّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إلى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ. وَتَغَيّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنّورِ. وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلّمَانِ مَعَهُ. فَجَعَلَ بُطرس يَقُولُ لِيَسُوع: «يَا رَبّ، جَيّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَال: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيّا وَاحِدَةٌ». وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلّمُ إذا سَحَابَةٌ نَيّرَةٌ ظَلّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ السّحَابَةِ قَائِلًا: «هذَا هُوَ أزلي الّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا». وَلَمّا سَمِعَ التّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدّا. فَجَاءَ يَسُوع وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا، وَلاَ تَخَافُوا». فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا إِلاّ يَسُوع وَحْدَهُ. (متّى 17: 1- 8، مرقُس 9: 2 – 8، لُوقا 9: 28 – 36).

تتبع حادثة التّجلّي من الناحية الزمنية اعتراف بُطرس بيَسُوع "المَسِيح ابن الله الحي" (متّى 16: 18)، والّذي تلاه مباشرة إعلان يَسُوع عن صلبه وموته وكذلك عن ثمن تبعيته (مرقُس 8: 31 – 38). فبعد "ستة أيام" من حادثة التّجلّي وحديث يَسُوع عن آلامه وموته أخذ يَسُوع "بُطرس ويَعقُوب ويُوحنّا" وصعد بهم إصعد بهم إلى جبل عال وكان يُصلي. وهناك "تغيّرت هيئته" وصارت " ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدّا كَالثّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصّارٌ عَلَى الأرض أَنْ يُبَيّضَ مِثْلَ ذلِكَ". لقد أشرق اللاهوت في داخله. لم يكن النور ينعكس عليه بل منه؛ من الداخل، فكان كله متوهّجًا، كان هو ذاته ممجدًا. وظهر لهم مُوسَى وإيليا، وكانا يتكلّمان معه عن خُروجه أو موته العتيد الذي قال هو عنه مرّات من قبل إنه ينبغي أن يُسلم ويصلب ويموت. إن مُوسَى الذي يمثّل الناموس وإيليا الذي يمثّل الأنبياء كانا يتحدثان معه عن موته، لأن موت المَسِيح وفدائه هو موضوع الناموس والأنبياء، وهو موضوع العهد القديم كله. لهذا عندما ظهر الرب يَسُوع بعد قيامته لتلميذيّ عمواس فتح أذهانهم ليروا أنه كان ينبغي أن يتألم ويموت كما كتب عنه في ناموس مُوسَى والأنبياء (لُوقا 24: 44 – 47).

عن هذه الحادثة شهد الرسول بُطرس وقال: "لأَنّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنّعَةً، إِذْ عَرّفْنَاكُمْ بِقُوّةِ رَبّنَا يَسُوع المَسِيح وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأنه أَخَذَ مِنَ اللهِ الآب كَرَامَةً وَمَجْدًا، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: «هذَا هُوَ أزلي الّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصّوْتَ مُقْبِلًا مِنَ السّمَاءِ، إِذْ كُنّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ المُقدّس" (2بُطرس 1: 16 – 18). يستخدم الرسول بُطرس حادثة التّجلّي ليقدم أساس إيماننا في مجيء المَسِيح ثانية، فيقول: "لأَنّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنّعَةً". لقد رأى بُطرس بعينيْه المَسِيحَ المكلّل بالمجد والكرامة وهذا التّجلّي هو برهان قوي على أن يَسُوع، بمجد وكرامة، سوف يأتي ثانية. فرجاء مجيء المَسِيح بالمجد والكرامة متضمَّن في التّجلّي والهيئة الّتي كان عليها يَسُوع ممجدًا

.

أمام هذا المنظر العجيب والمهيب نصمت لنسمع صوت الآب السماوي من السماء وهو يقول: "هذَا هُوَ ابني. لَهُ اسْمَعُوا». فيَسُوع هو الابن المتجسّد المحبوب والمساوي للآب في الجوهر. إن كلمات الله الآب وشهادته عن ابنه هي تأكيد مضاعف لإعلان واعتراف بُطرس بأن المَسِيح هو ابن الله الحي (متّى 16: 18)، فكلمات بُطرس جاءت بإعلان إلهي من السماء وها هو مصدر هذا الإعلان، شخص الله نفسه، يؤكّد هذه الحقيقة عن الابن المبارك مرّة أخرى. كما أن السحابة التي كانت تظلّله هي رمز لحضور الله، الشكينة، الحضور الإلهي. فشهادة الآب للابن مرّة عند بداية خدمته وقت معموديته، ومرّة ثانية قبيل الصلب والموت هي إعلان بأن هذا الشخص العجيب هو الابن المتجسّد، الابن الأزلي الذي كان في حضن الآب وهو الان في حالة الاتضاع ليتمّم الفداء والخلاص بموته الكفاري.

ما أهمية هذه الحادثة بالنسبة للتلاميذ؟ إنها بمثابة تشجيع لهم حتى يثبتوا في إيمانهم من جهة يَسُوع المَسِيح، فكلام يَسُوع عن صلبه وموته، من وجهة نظرهم، محبِط ومخيّب للآمال، لكن الرب أراد لهم أن يروا ولو لمحة قليلة من مجد المَسِيح حتى يدركوا أن الألم والموت لا بُد وأن يسبق المجد، وأن المَسِيح سوف يأتي بمجده مكلّلًا بالمجد والكرامة. كما أن التّجلّي هو عربون من الآب للابن، ليؤكّد له وهو في طريق الألم والصلب أنه بالرغم من رفض اليَهُود له إلا أنه مازال متسربلًا بالمجد والبهاء، ليتحقق كلام يَسُوع المَسِيح وصلاته "مَجّدْنِي أَنْتَ أَيّهَا الآب عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ" (يُوحنّا 17: 5).

لقد تسربل يَسُوع المَسِيح بالمجد لوهلة قصيرة على جبل التّجلّي، فرأى التلاميذ عظمته ومجده بصورة يمكن أن يحتملونها، إلا أن هذا المجد سيكتمل في

السماء. إنه ابن الله الموجود منذ الأزل والذي –بالتجسُد- أخلى نفسه وصار "لا منظر له ولا جمال فننظر إليه". كان من حيث المظهر الإنساني كأي إنسان، فقير، ليس له أين يسند رأسه، جاع وعطش وجُرّب، اختبر الألم والحزن، وأخيرًا الموت. لكن في التّجلّي، وللحظات بسيطة، ارتفع الحجاب عن حقيقة وطبيعة شخصه، فرأينا لاهوته ومجده وسمعنا شهادة السماء عنه. لقد أكّدت حادثة التّجلّي ما سوف يكون عليه يَسُوع بعد القيامة، وأظهرت أيضًا ما سوف نكون نحن المؤمنين عند مجيئه، سنكون مثله لأننا سنراه كما هو (يُوحنّا الأولى 3: 1).

الابن في التكليف العظيم 

"وَأَمّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذًا فَانْطَلَقُوا إلى الْجَلِيلِ إلى الْجَبَلِ، حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوع. وَلَمّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ، وَلكِنّ بَعْضَهُمْ شَكّوا. فَتَقَدّمَ يَسُوع وَكَلّمَهُمْ قَائِلًا: «دُفِعَ إِلَيّ كُلّ سُلْطَانٍ فِي السّمَاءِ وَعَلَى الأرض، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابن وَالرّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلّ الأَيّامِ إلى انْقِضَاءِ الدّهْرِ». آمِينَ. (متّى 28: 16 – 20).

يبدأ إنجيل متى بإعلان حقيقة اسم يَسُوع "عمانوئيل" وينتهي أيضًا بحقيقة وجود المَسِيح مع تلاميذه والمؤمنين لأنه "عمانوئيل" الله معنا. فيَسُوع المَسِيح الذي دخل إلى عالمنا حين وُلد في بيت لحم، وعاش بيننا، وصلب وقام، هو ليس فقط ابن داود بحسب الجسد، لكنه "ابن الله"، الكلمة المتجسّد. ولا يمكن أن يعطي مثل هذا الوعد إلا شخص "كلي الوجود"، "وكلي المعرفة"، لأن "كُلّ الأَيّامِ إلى انْقِضَاءِ الدّهْرِ" تُشير وتؤكّد على أبدية شخص يَسُوع المَسِيح. وعبارة "كُلّ الأمم" تؤكّد لنا ربوبية يَسُوع وسلطانه. في الحقيقة، إن كلمات يَسُوع الأخيرة لتلاميذه، تؤكّد مجموعة من الحقائق المُهمة عن ألوهيته: فهي تؤكّد لنا سلطانه ووجوده الكلي وكذلك معرفته الكلية، وأبديته، وكذلك ربوبيته. بكلمات أخرى، إن شخص يَسُوع المَسِيح له نفس صفات الله؛ الصفات الّتي لا يمكن أن يشارك الله فيها أحد من خلائقه.

لكن العبارة الّتي نريد أن نؤكد عليها، والّتي تعتبر أيضًا تأكيد على أن يَسُوع كان يعي طبيعة شخصه، هي العبارة الخاصّة بالمعمودية الّتي قال فيها يَسُوع: "وَعَمّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابن وَالرّوحِ الْقُدُسِ" (28: 19). إن كُلّ كلمة قالها يَسُوع المَسِيح في هذه العبارة مُهمّة جدًا لفهم طبيعة الله وتمايز الأقانيم الثلاثة. قال يَسُوع المَسِيح "عمّدوهم بِاسم" وليس بأسماء ليؤكد الوحدانية في شخص الله. كما أنه لم يقل عمّدوهم باسم الآب وباسم الابن وباسم الروح القدس، لأن ذلك يعني وجود ثلاثة أشخاص منفصلين، كما أنه لم يقل باسم آب وابن وروح قدس (بحذف أداة التعريف)، لأن ذلك قد يعني وحدانية الشخص لكن بثلاث أسماء مختلفة. قال المَسِيح بوضوح: "عَمّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابن وَالرّوحِ الْقُدُسِ" ليؤكّد وحدة الثلاثة أقانيم باستخدام الكلمة "اسم" وليس بأسماء، وفي نفس الوقت ليؤكّد على التميّز بين الأقانيم استخدم أداة التعريف لكُلّ منهم "الآب والابن والروح القدس." بهذه العبارة يؤكّد يَسُوع المَسِيح أنه واحد مع الآب والروح القدس، فهو كلمة الله وابن الله، الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس.

اتحاد الآب بالابن (يُوحنّا 10: 22 – المَسِيح ابن الإنسان 

ورد ذكر لقب "ابن الإنسان" في الأَناجيل المتشابهة الأولى، أي متّى ومرقُس ولوقا، حوالي 69 مرّة (30 مرّة في متّى ؛ 14 مرّة في مرقُس ؛ 25 مرّة في لُوقا)، كما ورد في إنجيل يُوحنّا 13 مرّة. في جُل المرّات الّتي ورد فيها لقب "ابن الإنسان" كان يَسُوع المَسِيح هو المتحدّث. فقط ثلاث مرّات ورد اللقب على لسان آخرين، حين استخدمه قادة اليَهُود مرّتين (يُوحنّا 12: 34) وحين نطق به الملاك مقتبسًا قول يَسُوع المَسِيح (لُوقا 24: 7). وفي كُلّ المرات الّتي استخدم فيها يَسُوع المَسِيح هذا اللقب كان يشير إلى:

  • أوّلًا: إلى خدمته الأرضية
  • ثانيًا: إلى آلامه وصلبه وموته
  • ثالثًا: إلى قيامته ومجيئه ثانية في سحاب المجد. لكن من هو هذا ابن الإنسان؟ وإلام يشير هذا اللقب المهم؟ ولماذا يعتبر اللقب المحبّب الذي
  • استخدمه يَسُوع المَسِيح للإشارة إلى شخصه؟

إن أصل هذا اللقب يعود إلى سفر دانيآل وإلى الرؤيا الّتي رأها في الأصحاح السابع من سفره: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللّيْلِ وإذا مَعَ سُحُبِ السّمَاءِ مِثْلُ ابن إنسان أَتَى وَجَاءَ إلى الْقَدِيمِ الأَيّامِ، فَقَرّبُوهُ قُدّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبّدَ لَهُ كُلّ الشّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أبدي مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ" (13 – 14).

ويعتبر لقب "ابن الإنسان" لقب مسيّاني، أي مرتبط بالمسيّا، لأنه يشير إلى طبيعة المسيّا وإرساليته، وكذلك إلى سلطانه وملكوته. إنه المسيّا المميّز والمختلف عن باقي البشر. نعم هو إنسان، لكنه أعظم من مجرّد إنسان. ففي رؤيا دانيآل النبي للممالك الأربعة الّتي تشير إلى بابل، ومادي وفارس، واليونان، والرُومَان، وإلى نصرة ملكوت الله على هذه الممالك البشرية، وبعد دمار هذه الممالك الأربع، يعطي الله سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لابن الإنسان لتتعبد له كُلّ الشعوب (دانيآل 7: 14). هذا السلطان والملكوت هو سلطان أبدي وملكوت لا ينقرض. لا يأخذ ابن الإنسان ملكوته بقوّة السيف ولا بالقوّة العسكرية، لكن هذا الملكوت "أعطي" له من الله. أي أن المسيّا أُعطى ملكوتَ الله نفسَه لكي يُحقق دور الإنسان الذي من أجله قد خلق (مزمور 8). نلاحظ أيضًا أن دانيال رأى "ابن الإنسان" الممجّد، الذي أتى مع سُحب السماء. فهذا الشخص، الذي جاء ليظهر أمام الله الآب في شكل إنسان، أصله سماوي وليس أرضي كباقي البشر. إنه جاء إلى حفلة التتويج مع سُحُب السماء. والتعبير "مثل ابن الإنسان" يُؤكّد أن ظهور هذا الملك ليس ظهورًا إنسانيًا، بل إنه شخص سماوي متجسّد. لهذا يُشير هذا اللقب إلى الله الذي صار في الهيئة كإنسان. إنه يَسُوع المَسِيح مستعلنًا لاهوته في بشريته. إن ابن الإنسان الذي هو أزلي الوجود "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يُوحنّا 3: 13).

إن استخدام يَسُوع المَسِيح لهذا اللقب وجعله أكثر الألقاب المحبّبة والمستخدمة لوصف طبيعته وإرساليته يُؤكّد أن يَسُوع كان يعلم جيدًا من هو :وما هي إرساليته وارتباط شخصه والارسالية بملكوت الله. فقد ارتبط هذا اللقب بثلاثة جوانب من حياة يَسُوع المَسِيح

  1. خدمته الأرضية: "لأن ابن الإنسان أيضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مرقُس 10: 45)، "لأن ابن الإنسان قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (متّى 18: 11). أثناء خدمته واتضاعه لم يكن للمسيح مكان ليسند فيه رأسه. قَالَ لَهُ يَسُوع: «لِلثّعَالِب أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمّا ابن الإنسان فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (متّى 8: 20). لكن بالرغم من حالة الاتضاع إلا أنه كان كلّي السلطان، وقد أظهر هذا السلطان في غفران الخطايا (مرقُس 2: 10 – 11) وإعلانه أنه هو ربُّ السبت (متّى 12: 8).
  2. الألم والصلب والموت: تحدّث يَسُوع المَسِيح كثيرًا مع تلاميذه عن أنه ينبغي أن يتألّم ويُرفض ويُقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم: "وَابْتَدَأَ يُعَلّمُهُمْ أَنّ ابن الإنسان يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ يَقُومُ" (مرقُس 8: 31). وعندما كان مع تلاميذه في الجليل أخبرهم بذلك أيضًا قائلًا: «ابن الإنسان سَوْفَ يُسَلّمُ إلى أَيْدِي النّاسِ 23فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثّالِثِ يَقُومُ». فَحَزِنُوا جِدّا" (متّى 17: 22).
  3. ظهوره في المجد: في أثناء محاكمة المسيح، سأل رئيسُ الكهنة: "أأنت المَسِيح ابن المبارك؟" فقال المسيح :«أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابن الإنسان جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السّمَاءِ» (مرقُس 14: 62). هذا الإعلان كان كفيلًا لأن يعتبر رئيس الكهنة أن يَسُوع قد جدّف، ولهذا شقّ ثيابه وقال ما حاجتنا بعد إلى شهود. أكّد يَسُوع المَسِيح حقيقة مجيئه في المجد حتى في أمثاله، فقال: "فَإِنّ ابن الإنسان سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ" (متّى 16: 26 – 27). المسيح هو الرب الإله الذي تخضع له الملائكة، ولهذا سوف يرسلها بتكليف محدّد وهو "يَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ، وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ" (متّى 13: 41).
في مجيئه الأوّل حقّق يَسُوع المَسِيح العنصريْن الأولين المرتبطيْن بلقب "ابن الإنسان"، وهما خدمته الأرضية وموته على الصليب. أما العنصر الثالث وهو

مجيئه في المجد على السحاب، فسوف يتحقّق بالكامل في مجيئه الثاني. إن استخدام يَسُوع لهذا اللقب يؤكّد الجانب الإلهي في شخصه، ويؤكّد إدراكه ومعرفته لطبيعته الإلهية وأنه موجود منذ الأزل. لهذا فإن التكلّم ضد "ابن الإنسان" يعتبر تجديفًا (متّى 12: 8، مرقُس 3: 28). أن يُلقّب يسوع نفسه بـ "ابن الإنسان" تأكيدٌ على أنه الإله-الإنسان. ولهذا استخدم يَسُوع هذا اللقب ليشير إلى إرساليته كإنسان بهدف أن يخلص ما قد هلك (مرقُس 10: 45)، كما استخدمه ليشير به إلى سلطانه الإلهي في مغفرة الخطايا والإقامة من الأموات وأنه رب السبت (مرقُس 2: 10، متّى 17: 9). فالمَسِيح يَسُوع يستخدم اللقب في قيامته وصُعوده وكذلك في مجيئة الثاني في المجد على السحاب (متّى 19: 28، متّى 24: 30).

أنا هو 

من العبارات المُهمّة الّتي استخدمها يَسُوع للإشارة فيها إلى حقيقة ذاته عبارة "أنا هو" الواردة بضعة مرّات في بشارة يوحنّا. بهذه العبارة يربط يَسُوع المَسِيح نفسه مع الرب الخالق، إله العهد "يهوه." عندما يشير يَسُوع إلى نفسه بعبارة "أنا هو" فهو يربط نفسه بشخصية إله العهد القديم يهوه. ففي سفر الخروج عرّف الله نفسه لمُوسَى بـ "يهوه" (أنا هو) قائلًا: «أَنَا إِلهُ أَبِيكَ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ... فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: «أَهْيَهِ الّذِي أَهْيَهْ». وَقَالَ: «هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج 3: 6، 14). هذا الإعلان الإلهي الذي فيه أعلن الله عن اسمه الشخصي والمميّز جدًا كإله العهد مع شعبه إسرائيل، أصبح الاسم الذي استخدمه الأنبياء للحديث عن إله العهد على طول العهد القديم، الإله الحي الحقيقي. فالرب الإله "يهوه" لا يوجد له مثيل ولا يمكن أن يُقارن بآلهة الأمم والأوثان، فهو الذي قال لشعبه "أَنْتُمْ شُهُودِي، يَقُولُ الرّبّ، وَعَبْدِي الّذِي اخْتَرْتُهُ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنّي أَنَا هُوَ. قَبْلِي لَمْ يُصَوّرْ إِلهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ. أَنَا أَنَا الرّبّ، وَلَيْسَ غَيْرِي مُخَلّص" (إشعياء 43: 10 – 11، انظر أيضًا 41: 4؛ 45: 8، 19، 22؛ 46: 4، 9؛ 48: 12، 17). بحسب الفكر اللاهوتي للعهد القديم "أنا هو" هو اسم الله الشخصي، الإله الأزلي والموجود بذاته، كلّي السلطان وكلّي المعرفة وكلّي الوجود، الإله الذي لا يمكن أن يقارن بآلهة الأمم والأصنام. فالعهد القديم يخُصّ عبارة "أنا هو" بالرب "يهوه"، ولهذا فلا يمكن أن يستخدمها أي إنسان من البشر ليصف أو يلقّب نفسه بها.

هنا يأتي يَسُوع المَسِيح ويأخذ ما ينسبه يهوه لنفسه في العهد القديم ويخصّ به ذاته فقط. عندما تحدّث عن موته وفدائه قال لهم «مَتَى رَفَعْتُمُ ابن

الإنسان، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنّي أَنَا هُوَ" (يُوحنّا 8: 28)، فهو الله المتجسّد الذي في كُلّ ما يقوله ويتنبّأ به حقّ ولا بُد أن يتم لأنه هو الله. كما أعلن يَسُوع المَسِيح عن وجوده السابق لليَهُود، فقال «الْحَقّ الْحَقّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (8: 58). ولقد أراد يسوع للتلاميذ أن يؤمنوا أنه هو: "أَقُولُ لَكُمُ الآن قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنّي أَنَا هُوَ" (13: 19). وأكثر من مرّة قال لهم لا تخافوا "أنا هو" (متّى 14: 27، مرقُس 6: 50). ونتيجة لقوله "أنا هو"، رَجَعُوا إلى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأرض" (يُوحنّا 18: 6).

إن إعلانات يَسُوع المَسِيح عن نفسه تؤكِّد لاهوته، وتؤكّد وعيه لطبيعته ولحقيقة شخصه أنه ابن الله المتجسّد. في كُلّ الإعلانات الّتي قالها يَسُوع عن نفسه

والّتي ارتبطت بعبارة "أنا هو" يؤكّد، دون أي شك، أنه هو يهوه. كذلك في المرّات السبع الّتي ارتبط فيها التعبير "أنا هو" بصفة أو فاعل أعلن يَسُوع فيها أنه هو الله المتجسد.

  1. «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا" (يُوحنّا 6: 35). هنا يربط يَسُوع بين المن السماوي الذي نزل من السماء ليشبع شعب الرب الجائع في البرية، وبين شخصه. فكما أكل الشعب المن قديمًا، كذلك من يَقبل يَسُوع؛ المن الحقيقي ينال حياة أبدية. فالمن الذي أعطاه الله لشعبه في البرية كان لإشباع الجسد، وكان مؤقتًا لأنه ارتبط فقط بفترة البرية، وكان غذاءً ماديًا لأن الآباء الذين أكلوا منه ماتوا. أما المن الحقيقي، شخص يَسُوع المَسِيح، فهو روحي ومقدّم للعالم كله ودائم وأبدي، كما أنه يُشبع دائمًا وأبديًا، فمن يأكل منه لا يجوع أبدًا، كما أنه واهب الحياة الأبديّة، وهو عطية الآب للبشر "لأن خُبْزَ اللهِ هُوَ النّازل مِنَ السّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ».
  2. «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ“ (يُوحنّا 8: 12). لقد أعلن الرب قديمًا حضوره مع شعبه من خلال السحابة الّتي كانت تظلّلهم بالنهار وعمود النار الذي كان يضيء لهم بالليل (خروج 13: 22). قال داود عن الرب يهوه في مزمور 27 "اَلرّبّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمّنْ أَخَافُ؟ الرّبّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمّنْ أَرْتَعِبُ؟" (27: 1). وهنا يُعلن يَسُوع هذه الحقيقة عن نفسه فيقول "أنا هو نور العالم". إن يَسُوع نورُ العالم لأنه هو الخالق، فقد ربط يَسُوع المَسِيح بين هذا الإعلان ومعجزة شفاء المولود أعمى. "وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إنسانا أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أم أَبَوَاهُ حَتّى وُلِدَ أَعْمَى؟». أَجَابَ يَسُوع: «لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أعمال اللهِ فِيهِ. يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أعمال الّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ». قَالَ هذَا وَتَفَلَ عَلَى الأرض وَصَنَعَ مِنَ التّفْلِ طِينًا وَطَلَى بِالطّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى. وَقَالَ لَهُ: «اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ» الّذِي تَفْسِيرُهُ: مُرْسَلٌ، فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيرًا" (يُوحنّا 9: 1-7). إنه نور العالم لأنه ابن الله المتجسّد، فبعدما شفى المولود أعمى قابل يَسُوع هذا الرجل مرّة ثانية، وقال له: «أَتُؤْمِنُ بِابن اللهِ؟» أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: «مَنْ هُوَ يَا سَيّدُ لأُومِنَ بِهِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوع: «قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالّذِي يَتَكَلّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ!» فَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيّدُ!» وَسَجَدَ لَهُ" (9: 35- 36). إن يَسُوع أيضًا هو نور العالم لأنه واهب الحياة، لهذا قال يُوحنّا الحبيب في افتتاحية إنجيله " فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النّاسِ، وَالنّورُ يُضِيءُ فِي الظّلْمَةِ، وَالظّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ...كَانَ النّورُ الْحَقِيقِيّ الّذِي يُنِيرُ كُلّ إنسان آتِيًا إلى الْعَالَمِ" (يُوحنّا 1: 4-5).
  3. «الْحَقّ الْحَقّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنّي أَنَا بَابُ الْخِرَافِ“ (يُوحنّا 10: 7). في الأصحاح التاسع من إنجيل يُوحنّا نرى الكتبة والفريسيين يطردون المولود أعمى الذي شفاه يَسُوع المَسِيح. لقد طردوه من المجمع وكأنهم طردوه من حظيرة اليَهُودية. لكن يَسُوع لاقاه وفتح قلبه وقاده إلى الإيمان بشخصه، أي أنه أدخله إلى حظيرة الإيمان به وهي حظيرة أفضل لأن لها راعٍ افضل، راعٍ بذل نفسه عن الخراف. إنه الراعي الذي يعطي حياة بل وأفضل حياة. في هذا السياق قدّم يَسُوع المَسِيح ثلاث صور عن شخصه وهي صورة الراعي الذي يعرف خرافه وهي تتبعه، وصورة الراعي الذي هو الباب، وصورة الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف. في قول يَسُوع المَسِيح عن نفسه «الْحَقّ الْحَقّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنّي أَنَا بَابُ الْخِرَافِ“ إعلان أنه هو المسيّا الذي من خلاله فقط يحصل الإنسان على الخلاص وينال الحياة الأبديّة. فمن يدخل بيَسُوع "يخلُص"، وينال حريّة "يدخل ويخرج"، ويشبع "يجد مرعى". لهذا أكّد يَسُوع المَسِيح هذه الحقيقة فقال: "أَنَا هُوَ الْبَابُ. إن دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى" (يُوحنّا 10: 9).
  4. "أَنَا هُوَ الرّاعِي الصّالِحُ، وَالرّاعِي الصّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ" (يُوحنّا 10: 11). قال داود عن الرب في مزمور 23 "الرّبّ رَاعِيّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ" فالرب هو راعي إسرائيل، لهذا يقول المرنم "يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ، اصْغَ، يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَالضّأْنِ، يَا جَالِسًا عَلَى الْكَرُوبِيمِ أَشْرِقْ. قُدّامَ أَفْرَايِمَ وَبِنْيَامِينَ وَمَنَسّى أَيْقِظْ جَبَرُوتَكَ، وَهَلُمّ لِخَلاَصِنَا" (مزمور 80: 1- 2)، كذلك يقول إشعياء واصفًا رعاية الرب لشعبه "هُوَذَا السّيّدُ الرّبّ بِقُوّةٍ يَأْتِي وَذِرَاعُهُ تَحْكُمُ لَهُ. هُوَذَا أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَعُمْلَتُهُ قُدّامَهُ. كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلاَنَ، وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا، وَيَقُودُ الْمُرْضِعَاتِ» (40: 11)، كما يتحدّث إرميا عن الرب الراعي الذي سيجمع شعبه كما يجمع الراعي قطيعه «اِسْمَعُوا كَلِمَةَ الرّبّ أَيّهَا الأُمَمُ، وَأَخْبِرُوا فِي الْجَزَائِرِ الْبَعِيدَةِ، وَقُولُوا: مُبَدّدُ إِسْرَائِيلَ يَجْمَعُهُ وَيَحْرُسُهُ كَرَاعٍ قَطِيعَهُ" (31: 10). مع أن الرب وحده هو الذي وُصف بالراعي، إلا أن يَسُوع المَسِيح يقف وسط اليَهُود ويقول لهم: "أنا هو الراعي الصالح" فهو الراعي الذي يهتم بخرافه وليس كالأجير أو السارق. إنه الراعي الحقيقي المحبّ لخرافه والمعطي نفسه وذاته من أجل فدائها وخلاصها (انظر أيضًا غلاطية 1: 4، أفسس 5: 2، عبرانيّين 9: 14، 13: 20-21)، فيَسُوع هو راعي الرّعاة (بُطرس الأولى 5: 4).
  5. "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا“ (يُوحنّا 11: 25). تُعتبر معجزة قيامة لعازر من بين الأموات تاج مُعجزات يَسُوع المَسِيح، باستثناء طبعًا معجزة قيامته هو نفسه من بين الأموات، في اليوم الثالث. هنا أعلن يَسُوع المَسِيح هذا الإعلان العظيم عن ذاته أنه هو "القيامة والحياة". لقد أتى يَسُوع إلى بيت عنيا حيث تسكن مرثا ومريم بعد أن صار للعازر أربعة أيام في القبر، ولهذا وُصف لعازر بأنه "قد أنتن"؛ بل تحلّل جسمه نتيجة قيام البكتريا الموجودة داخل الجسم بعمليات الهضم والتآكل لخلايا الجسم الميتة، فتحلّل الجسم وسقطت عضلات الجسم عن الهيكل العظمى وتحلّل الجسد تدريجيًا حتى يختفي تمامًا. لقد احتاج لعازر، لا قيامة فقط، بل في الواقع خلقًا من جديد، من ذاك الذي كُلّ شئ به كان (يُوحنّا 1: 3). لقد برهنت قيامة لعازر وخلقته من جديد على لاهوت المَسِيح، فهو رب الحياة وهو الذي بكلمة يُقيم من الأموات "لأنه كما أن الآب يُقِيمُ الأموات وَيُحْيِي، كَذلِكَ الابن أيضًا يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ" (يُوحنّا 5: 21). إن مُعجزات القيامة الّتي صنعها يَسُوع المَسِيح تبرهن على صدق كلامه وتقدّم لنا الدليل على أن ما قاله سوف يحدث. لقد قال من قبل لرؤساء الشعب والفريسين "لاَ تَتَعَجّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الّذِينَ فَعَلُوا الصّالِحَاتِ إلى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالّذِينَ عَمِلُوا السّيّئَاتِ إلى قِيَامَةِ الدّيْنُونَةِ" (يُوحنّا 5: 28 - 29)، والبرهان على أنه صادق هو قُدرته على الإقامة من الأموات. وقد برهن ذلك أكثر من مرّة.
  6. «أَنَا هُوَ الطّرِيقُ وَالْحَقّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إلى الآب إِلاّ بِي“ (يُوحنّا 14: 6). لقد انزعج التلاميذ واضطربوا من كلام يَسُوع المَسِيح عندما أخبرهم بأنه سوف يتركهم "يَا أَوْلاَدِي، أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا قَلِيلًا بَعْدُ. سَتَطْلُبُونَنِي، وَكَمَا قُلْتُ لِلْيَهُود: حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا، أَقُولُ لَكُمْ أَنْتُمُ الآن" (13: 33). فابتدأ يَسُوع يشجّع تلاميذه ويطمئنهم «لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ..." (14: 1). إلا أن توما، واحد من التلاميذ، سأله قائلاَ: «يَا سَيّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطّرِيقَ“ (14: 5). فقال له يَسُوع: «أَنَا هُوَ الطّرِيقُ وَالْحَقّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إلى الآب إِلاّ بِي. “ (يُوحنّا 14: 6). إن جواب يَسُوع يُعتبر جوابًا جامعًا ومانعًا في نفس الوقت، جامعًا في َقوله "أنَا هُوَ الطّرِيقُ وَالْحَقّ وَالْحَيَاةُ"، ومانعًا في قوله " لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إلى الآب إِلاّ بِي." فيَسُوع هو الطريق الوحيد لأنه هو كمال إعلان الله "من رآني فقد رأى الآب "، وهو الوسيط الوحيد بين الله والناس. نعم، يَسُوع هو الطريق الذي أتى من عند الله ليأخذنا إلى الله. إن يَسُوع هو "الحق." لم يتحدّث هنا يَسُوع كمعلّم أو حتى كنبي، فالمعلّم والنبي يشرح ويفسِّر التوراة ويستشهد بكتابات معلّمي اليَهُود كما هي مدوّنة في التلمود. إلا أن يَسُوع لم يتحدّث ولم يتبع هذا الطريق. ففي الموعظة على الجبل تحدّث بسلطان وقال "أما أنا فأقول"، ولم يقتبس يَسُوع المَسِيح اقتباسًا واحدًا في كُلّ تعاليمه من كتابات معلّمي اليَهُود. كما حثّ يَسُوع سامعيه على العمل بما يقوله لهم: "فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها..." (متّى 7: 24، 26). لم يتحدّث يسوع كأحد الأنبياء الذين كانوا يقولون دائمًا "هكذا قال الرب"، بل قال للجموع "أما أنا فأقول لكم" أكثر من 145 مرّة. كما بدأ يَسُوع كلامه أكثر من 25 مرّة بعبارة "الحق الحق أقول لكم" هذه العبارة الّتي لا نجدها في كتابات المعلّمين السابقين واللاحقين له. لقد تحدّث يَسُوع بسلطان وبثقة قائلًا: "السّمَاءُ وَالأرض تَزُولان وَلكِنّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ" (متّى 24: 35، مرقُس 13: 31). فمن من البشر يجرؤ أن يدّعي مثل هذا الأمر؟ لا أحد بكُلّ تأكيد، فلا معلم ولا كاهن يقدر أن يقول "كلامي لا يزول"، فقط الله هو صاحب السلطان وكلامه وحده لا يزول. هو الذي قيل عن كلامه "يَبِسَ الْعُشْبُ، ذَبُلَ الزّهْرُ. وَأَمّا كَلِمَةُ إِلهِنَا فَتَثْبُتُ إلى الأبدِ» (إشعياء 40: 8). لكن يَسُوع قال عن كلامه ما لا يقال إلا عن كلام الله وحده. والسبب هو أن يَسُوع هو الابن المتجسّد، الكلمة الأزلي المعادل لله. فلم يكن يَسُوع يتكلّم فقط عن الله لكنه كان الله المتكلم. لهذا فإن كلام يَسُوع عن نفسه كونه "الحق" يؤكد إدراكه لنفسه أنه هو الوحيد المتكلّم بالحق، بل هو الحق المتجسّد، تمامًا كما أن الآب هو حق. إنه "مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقّا" (يُوحنّا 1: 14). يَسُوع "هو الحياة"؛ مصدرها ومنبعها ومعطيها، وبعيدًا عن يسوع لا توجد حياة. هذه الحياة نجدها في العلاقة الشخصية، في معرفته كمخلّص وكرَبّ. فهو "رب الحياة" (أعمال 3: 15). لقد اشترى لنا المَسِيح الحياة بدمه الكريم (عبرانيّين 10: 20؛ يُوحنّا 10: 10). لهذا يقول الرسول بُولُس إن "هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أبديةٌ بِالمَسِيح يَسُوع رَبّنَا" (رُوميَة 6: 23). لهذا فإن غرض الحياة المَسِيحية أن تظهر حياة المَسِيح فينا، فهو حياتنا (كورنثوس الثانية 4: 10-11، انظر أيضًا غلاطية 2: 19 – 20؛ فيلبي 1: 21؛ كولوسي 3: 3 – 4).
  7. «أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيّةُ وَأَبِي الْكَرّامُ." (يُوحنّا 15: 1). يتحدّث يَسُوع المَسِيح هنا عن علاقة الأغصان بالكرمة، وكيف أن ثباتها في الكرمة هو ضمان حياتها، استمرارها، وأثمارها. وقد استخدم يَسُوع مثال الكرمة لأن الكرمة الغنية بعصارتها لا قيمة لأغصانها بعيدًا عن الكرمة. كانت إسرائيل هي كرمة الرب، الكرمة الّتي اعتنى بها وكان يسقيها نهارًا وليلًا (مزمور 80: 1- 7، إرميا 2: 2، 6: 9، حزقيال 15، 17: 5-10، هوشع 10: 1، 14: 8). لقد انتظر الرب من هذه الكرمة أن تثمر لكنها أنتجت ثمرًا رديًا. لهذا فيَسُوع المسيح، المسيّا، هو الكرمة الحقيقية، وكل من يقبله ويقبل خلاصه ويثبت فيه، يأتي بثمر ويدوم ثمره.

لقد جاء ابن الله وتجسّد، وعاش بين اليَهُود وخدم وعلّم. كانت تعاليمه برهانًا على لاهوته، وكذلك كانت مُعجزاته تبرهن على حقيقة شخصه، فكم شفى البشر من أمراض، أخرج الشياطين، وأقام الموتى، وأظهر سلطانًا على الطبيعة والرياح والبحر. كما أظهرت حياة القداسة التي عاشها اختلافه عن باقي البشر، فهو القدوس والبار الذي لم يفعل خطية ولم يوجد في فمه غش. كان من المتوقّع أن هذه الأمور تجعل اليَهُود يهابون يَسُوع ويخافونه، إلا أنهم كرهوه، وأبغضوه، ورفضوه، وأخيرًا حكموا عليه بالصلب والموت. إنه بحقّ الحجر الذي رفضه البناؤون والذي صار رأسَ الزاوية. لم تكن كلمة الكرّامين الأشرار هي الكلمة الأخيرة في حياة يَسُوع، فالكلمة الأخيرة هي للآب المحب الذي يمجّد ابنه. وقد فعل الآب ذلك إذ أقام المَسِيح من بين الأموات. يقول بُطرس الرسول: "هذَا هُوَ: الْحَجَرُ الّذِي احْتَقَرْتُمُوهُ أَيّهَا الْبَنّاؤُونَ، الّذِي صَارَ رَأْسَ الزّاوِيَةِ. وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأن لَيْسَ اسم آخر تَحْتَ السّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال 4: 11 – 12، بُطرس الأولى 2: 7).

المسيح الأزلي
أزليّة المَسِيح في العَهد الجَديد 

يبدأ الرّسُول يُوحنّا الحبيب إنحيله بعبارة مُهمّة جدًا، فيقول: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ" (1: 1)، هنا يُؤكّد البشير أن لاهوت المَسِيح لم يكن من اختراع الإنسان، ولا هو قرار مجامع كنسيّة، ولم تتطوّر نظرة وإيمان الكنيسة في يَسُوع من التوحيد والتمجيد إلى العبادة والشرك. فالمَسِيح هو الكلمة الأزلي، نعم الأزلي الّذي هو منذ الأزل وإلى الأبد. فقبل أن يكون البدء موجودًا كان الكلمة موجودًا. إن غرض الأَناجيل هو أن تؤكّد إن الكلمة صار جسدًا وليس أن الإنسان صار إلهًا. لقد قصد يُوحنّا الحبيب أن يقرأ كُلّ إنجيله في ضوء الآية الأولى، فأعمال وكلمات يَسُوع هي نفسها أعمال وكلمات الله وإذا لم يكن هذا حق يكون كُلّ الكتاب تجديف." فالمَسِيح في وجوده سابق لتجسّده، لأنه أزلي.

من المعروف أن حياة الإنسان تبدأ من لحظة ميلاده وحتى خروجه من هذا العالم. ولهذا يُكتب في شهادة الميلاد التي تصدرها الدول المتقدِّمة، الدقيقة والساعة واليوم والشهر والسنة الّتي وُلد فيها الإنسان. أما بالنسبة لحياة المَسِيح فهي لا تبدأ بميلاده، فميلادُه هو لحظة دخوله للعالم لكن الكِتَاب المُقدّس يكلّمنا عن المَسِيح الأزلي، الّذي وجوده قبل الأزل وإلى الأبد. إن المَسِيح ينتمي لعالم الأزل عالم الله الأزلي الّذي هو قبل كُلّ خليقة. فالزمن والخليقة كلها جعل لها الكلمة الخالق بداية ولهذا فهو موجود قبل خلق العالم. هذه الحقيقة أكّدها المَسِيح بفمه الطاهر أكثر من مرّة، فها هو يعلنها في صلاته الشفاعيّة بصورة واضحة وجليّة إذ يقول "وَالآن مَجّدْنِي أَنْتَ أَيّهَا الآب عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الّذي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَم ... لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الّذي أَعْطَيْتَنِي، لأَنّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ" (يُوحنّا 17: 5، 24).

تؤكد الآية الافتتاحيّة لإنجيل يُوحنّا "في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ" (1: 1) ثلاثة حقائق أساسيّة في الإيمان المَسِيحي.

  • أوّلًا، علاقة الكلمة بالبدء، فالكلمة موجود قبل البدء "قبل أن يكون البدء موجودًا كان الكلمة موجودًا." فقبل أن يكون الخلق والكون كان الكلمة دائم الوجود، فهو الكائن والّذي كان والّذي يأتي، أي الكائن دائمًا.
  • ثانيًا، علاقة الكلمة بالله، في الفكر اليُونانيّ، الكلمة اللوجوس تشير إلى "المبدأ الأول" الّذي يُنير ويخلق العالم، هو الحكمة كليّة الوجود الّتي بها وُجدت كُلّ الأشياء. بالنسبة للفيلسوف الاسكندري فيلو، اللوجوس هو الفكر الموجود في عقل الله أو العقل الإلهي الّذي يخلق ويحكم الكون. كما أن اللوجوس هو الواسطة الّتي بها يعرف الإنسان الله، فهو عقل وفكره الله. بالنسبة للفكر اليَهُودي فالكلمة أي الكلمة الّتي خرجت من فم الله خلقت وأوجدت الموجودات، الكلمة الخالق، لهذا يقول المرنم "بكَلِمَةِ الرّبّ صُنِعَتِ السّمَاوَاتُ، وَبِنَسَمَةِ فِيهِ كُلّ جُنُودِهَا" (مزمور 33: 6). فالكلمة أساس عهد الله مع إبراهيم (تكوين 15: 1) وأساس تأسيس الناموس الموسوي (خروج 24: 3 – 4) وإعطاء الوصايا العشرة (تثنية 5: 5) وأساس رسالة الأنبياء (إشعياء 1: 10؛ هوشع 1: 1؛ يوئيل 1: 1) ومفتاح الاستنارة (مزمور 119: 105)، وبكلمة الرب خُلقت السماوات والأرض. لاهوت الكلمة في العهد القديم يمكن تلخيصة في ثلاثة أمور:
    • أوّلًا، كلمة الله فعّالة وقويّة في الخلق، فالله قال فكان (تكوين 1: 3، مزمور 33: 6، 9، 147: 15 – 18، مزمور 148: 5 – 7).
    • ثانيًا، كلمة الله تعلن وتفدي، الله تكلّم ليتواصل ويؤكّد وجوده، صفاته، طبيعته، مقاصده، وليقود شعبه (مزمور 119: 9، 25، 28، 65، 107، 169، 170،
    • إشعياء 9: 8، إرميا 1: 4). كما أن الله يخلص وينقذ ويدين بكلمته (إشعياء 55: 11، مزمور 29: 3، 107: 20).
    • ثالثًا، كلمة الله هي الله نفسه، لهذا كلمة الله أبديّة كما أن الله أبدي (مزمور 119: 89). فالاختلاف بين الفكر اليَهُودي والفكر اليُونانيّ عن الكلمة هو أن
    • الكلمة في الفكر اليُونانيّ تعني المنطق والعقل المنطوق به. أما في فكر العهد القديم فكلمة الله فيها قوّة خلق، كلمة فعّالة وليس فقط تعبير عن الفكر، فعندما نطق الله، الكلمة الّتي قالها خلقت وأوجدت ما لم يكن موجود. "كلمة الله ... هي تعبير الله عن نفسه، بالأخص في الخلق والإعلان والخلاص." فمع أن الرّسُول يُوحنّا استخدم الكلمة أو لفظة اللوجوس إلا أن فكره عن الكلمة لم يكن منبعُه الفلاسفة اليُونانيّين بل العهد القديم. فاللوجوس عند يُوحنّا ليس مجرّد كلمة منطوقة نابعة من عقل مفكّر، بل هو شخص، نعم هو شخص المَسِيح الأزلي الّذي صار جسدًا. إنّ الكلمة ليس مجرّد كلمة منطوقة ولا مجرّد عقل كأن الآب به يُفكر، بل هو شخص حي له حُضور وغير منفصل عن الآب. اللوجوس هو شخص المَسِيح الّذي يستعلن الوجود الإلهي، هو كُلّ ملء الآب، الخالق الّذي أوجد كُلّ الموجودات. إنه التميّز بين الآب والابن، جوهر واحد لكن أقنوميْن متميزيْن.
    • رابعًا، الوحدة بين الكلمة والله- يؤكّد الرّسُول يُوحنّا العلاقة الأزليّة بين الله والكلمة "... وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ." قبل الخليقة، قبل البدء الّذي تحدّث عنه سفر التكوين (1: 1) كان الكلمة عند الله، في علاقة واتحاد لا ينفصل، تميّز لكن من نفس الجوهر، فالمَسِيح الكلمة لم يصبح إلهًا بالخلق من الله وإلا عند التّجسُّد

      تؤكد الآية الأولى في إنجيل يُوحنّا: "في الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ" حقيقةَ أزليّة المَسِيح. فالفعل "كَانَ" ينبغي أن يرى في ضوء الفعل "صَارَ" "والكلمة صار جسدًا" (1: 14)، فالكلمة صار جسدًا ليس معناها أن الكلمة لم يكن موجودًا أو وُجدَ أو جاء إلى الوجود. فالكلمة كان موجود قبل الأزل، أي قبل أن يصير جسدًا ويتّخذ طبيعة بشريّة، كان الكلمة موجودًا عند الله. لهذا استخدم الرسول يُوحنّا الفعل "كان" وهو فعل ماضٍ ناقص ليُؤكّد أن الكلمة كان موجودًا في الماضي ومازال موجودًا في الحاضر "الكائن والّذي كان،" فقبل أن يكون البدء موجودًا كان الكلمة ومازال موجودًا. هذه الحقيقة أكّدها المَسِيح نفسه عندما قال لليَهُود "أبوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُود: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوع: «الْحَقّ الْحَقّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِن" (يُوحنّا 8: 56 – 58). "أَنَا كَائِن" ، المعنى الوحيد الّذي يؤكّده هذا التصريح هو ألوهيّة المَسِيح، ففي الوقت الّذي ظهر فيه إبراهيم كان المَسِيح "كائن" أي موجود. إن قول المَسِيح صراحة "أَنَا كَائن" لا يقتصر على حقيقة وجود المَسِيح "قبل إبراهيم" لكن على أزليته، فهو يهوه العهد القديم، لهذا اعتبره اليَهُود مجدّف وأرادوا قتله لأنه جعل نفسه مساويًا لله. أما قول المَسِيح "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِن" يذكر اليَهُود بتأكيد الله لأزليته في العهد القديم حيث بقول مزمور 90: 2 "مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ الْجِبَالُ، أو أَبْدَأْتَ الأرض وَالْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ الأزل إلى الأبدِ أَنْتَ اللهُ." يقول كوموزوسكي إن الترجمة السبعينيّة لمزمور 90: 2 تعكس نفس اللغة والتركيب اللغوي ليُوحنّا 8: 58، فهي تستخدم نفس الأفعال وتعكس نفس المقارنات بين ما هو مخلوق ووقتي وبين الله الّذي هو أزلي وغير مخلوق.

      إن كل إعلانات المَسِيح الصريحة عن أزليته تؤكّد إدراكه التام لحقيقة شخصه وطبيعته الإلهيّة، هذه الحقيقة رسمها المَسِيح بنفسه بكل وضوح قبل الصلب بأيام معدودة في صلاته الشفاعيّة المُسجّلة في إنجيل يُوحنّا والأصحاح السابع عشر. يقول المَسِيح في الآية 5 "وَالآن مَجّدْنِي أَنْتَ أَيّهَا الآب عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الّذي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ." إن عقيدة الوجود السابق ليَسُوع تشرق بدون أدنى شك من خلال هذه الكلمات، فيَسُوع يتمتع بالمجد قبل كون العالم، وهذا المجد في محضر الآب. فصلاته تؤكّد عودته إلى الحالة الّتي تمتّع بها قبل التّجسُّد. ولهذا يقول يَسُوع: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إلى السّمَاءِ إِلاّ الّذي نَزَلَ مِنَ السّمَاءِ، ابن الإنسان الّذي هُوَ فِي السماء» (يُوحنّا 3: 13). إنه المَسِيح وحده ؛ابن الإنسان الّذي له القدرة على الوجود في العالميْن السماوي والأرضى، فهو قد نزل من السماء بالتّجسُّد "والكلمة صار جسدًا" وقد كان يملأ السماوات حتى في تجسُّده، ثم صعد للسماء بعد القيامة، وهو في نفس الوقت في السماء. إن حقيقة صعود المَسِيح لا يعني أنه يعود إلى حالة جديدة من الوجود، بل أنها في الحقيقة عودة إلى المجد الذي كان عليه قبل التّجسُّد "فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابن الإنسان صَاعِدًا إلى حَيْثُ كَانَ أَوّلًا!" (يُوحنّا 6: 62).

عمل المَسِيح قبل التّجسُّد يؤكِّد أزليته 

نقرأ في أكثر من موضع أن يَسُوع المَسِيح الابن الأزلي هو الّذي خلق الكون. يقول الرّسُول بُولُس في كولوسي 1: 15 – 20 "الّذي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلّ خَلِيقَةٍ. فَإِنّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلّ: مَا في السّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأرض، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أم سِيَادَاتٍ أم رِيَاسَاتٍ أم سَلاَطِينَ. الْكُلّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الّذي هُوَ قَبْلَ كُلّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلّ وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الّذي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدّمًا فِي كُلّ شَيْءٍ. لأنه فِيهِ سُرّ أَنْ يَحِلّ كُلّ الْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلّ لِنَفْسِهِ، عَامِلًا الصّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأرض، أم مَا فِي السّمَاوَات". ويقول كاتب رسالة العبرانيّين: "اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلّمَ الآباءَ بِالأنبياء قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلّمَنَا فِي هذِهِ الأَيّامِ الأخيرةِ فِي ابْنِهِ، الّذي جَعَلَهُ وَارِثًا لكُلّ شَيْءٍ، الّذي بِهِ أيضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الّذي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ.." (1: 1-3). وبحسب كلمة الرب فإن عمل الخلق والعناية هو عمل يخُصّ الله وحده. إلا أن العهد الجديد يُؤكِّد حقيقة أخرى إذ ينسب عمل الخلق إلى الإله المثلث الأقانيم، فالله الآب خلق الكون، من خلال الابن، وبقوّة الروح القدس. لهذا يقول الرّسُول يُوحنّا عن المَسِيح الكلمة الأزلي: «كُلّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمّا كَانَ» (يُوحنّا 1: 3)، ويقول الرّسُول بُولُس "فَإِنّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلّ: مَا في السّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأرض" (كولوسي 1: 16)، ودور الروح القدس والكلمة في الخلق نجده أيضًا في تكوين 1: 2- 3 "وَكَانَتِ الأرض خَرِبَةً وَخَالِية، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ. وَقَالَ اللهُ...". طبعًا عندما نتحدّث عن الابن الأزلي الخالق فنحن لا نتحدّث عن إله ثانٍ مُنفصل عن الله الواحد، بل هو أقنوم آخر في الإله الواحد المثلث الأقانيم (الآب والابن والروح القدس).

وفي كورنثوس الأولى 8: 6 ربط الرّسُول بُولُس بين شخصيّة المَسِيح في العهد الجديد ويهوه في العهد القديم حيث يقول: "لكِنْ لَنَا إِلهٌ وَاحِدٌ: الآب الّذي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوع المَسِيح، الّذي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ بِهِ" بنى المَسِيحييون الاوائل إيمانهم على حقيقة وحدانيّة الله المذكورة في "اسمع" (تثنية 4: 6) وربطوا بين يَسُوع والإله الواحد في العهد القديم والتقليد اليَهُودي. فالله الواحد الخالق هو أيضًا المُخلِّص، فالخلاص –ببساطة- يعني أن نعيش من أجل الله الآب الّذي منه جميع الأشياء من خلال الرب الواحد يَسُوع المَسِيح، الّذي به جميع الأشياء ونحن به.

الفصل الثالث
براهين لاهوت المَسِيح 

سأل الرّبّ يَسُوع المَسِيح جماعة الفريسيّين قائلًا: «مَاذَا تَظُنّونَ فِي المَسِيح؟ ابن مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ: «ابن دَاوُدَ». قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرّوحِ رَبّا؟ قَائِلًا: قَالَ الرّبّ لِرَبّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِيني حَتّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّا، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟» فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ." (متّى 22: 42 - 46). هذا السؤال وإن كان قد طُرح منذ ألفي عام إلا أنه مازال يُطرح اليوم في كل مكان وبالأخص في عالمنا العربي. من هو يَسُوع المَسِيح؟ هل هو مجرّد إنسان صالح عادي كباقي البشر؟ أم نبي من الأنبياء؟ كيف نفسّر أقواله عن نفسه؟ وكيف نفسّر تعاليمه ومعجزاته، هذه التعاليم والمعجزات الّتي لم ولن يقول أو يعمل أحد مثلها؟!

أوّلًا، المَسِيح له صفات الله 

يعلّمنا الكِتَاب المُقدّس، وبالأخص العَهد الجَديد، أن المَسِيح له كُلّ الصفات الإلهيّة، الصفات الّتي تجعل من الله إلهًا حقيقيًا مختلفًا عن بقيّة المخلوقات والموجودات. يقول الرسول بُولُس عن شخص يَسُوع المَسِيح "فَإِنّهُ فِيهِ يَحِلّ كُلّ مِلْءِ اللاّهُوتِ جَسَدِيّا" (كولوسي 2: 9). أي أن المَسِيح هو إله حق فيه كُلّ الصفات الإلهيّة وجوهر الله ففي المَسِيح يَسُوع، الكلمة المتجسِّد، كُلّ ملء اللاهوت. إن جوهر وطبيعة الله، وكُلّ صفات الله، وصفات العظمة والصفات الأدبيّة والأخلاقيّة، وبالإجمال كُلّ الصفات الّتي تجعل من الله إلهًا حقيقيًا موجودة في شخص يَسُوع المَسِيح، وذلك لأنه ببساطة ابن الله المتجسّد. يُؤكِّد الكِتَاب المُقدّس، بكل وضوح وحسم، أنه لا يوجد أحد يشبه الله، فالله لا مثيل له، هو فريد في طبيعته وصفاته وجوهره. "فبِمَنْ تُشَبّهُونَ اللهَ، وَأي شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ؟...«فَبِمَنْ تُشَبّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟» يَقُولُ الْقُدّوسُ" (إشعياء 40: 18، 25). كما يقول الرب أيضًا عن نفسه «أَنَا الأوّل وَأَنَا الآخِرُ، وَلاَ إِلهَ غَيْرِي وَمَنْ مِثْلِي؟ " (إشعياء 44: 7)، ويؤكِّد النبيّ هذه الحقيقة مرّة أخرى لشعبه فيقول "اُذْكُرُوا الأَوّلِيّاتِ مُنْذُ الْقَدِيمِ، لأَنّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِي" (إشعياء 46: 9) (انظر أيضًا خروج 8: 10، 9: 14، 15: 11، صموئيل الثاني 7: 22، ملوك الأوّل 8: 23، مزمور 86: 8، إرميا 10: 6-7، وميخا 7: 18). إلا أنه في المقابل يُؤكِّد العَهد الجَديد على أن المَسِيح له جوهر وصفات الله. يقسّم علماء اللاهوت صفات الله إلى قسميْن: صفات يشارك فيها الله الإنسان المخلوق، وصفات خاصّة بالله إذ لا يمكن أن يشاركه فيها أحد من المخلُوقات.

  • المَحبَّة  
    – لو سألنا الناس ما هو أكثر ما يحوز إعجابكم في شخص يَسُوع المَسِيح؟ ستكون الإجابة بلا أدنى شك، محبته. هذه المَحبَّة الّتي لم يستطع بُولُس الرسول أن يصفها فقال عنها إنها "فائقة المعرفة" (أفسس 3: 17 – 19). هذه المَحبَّة ليس لها مثيل في كُلّ التاريخ البشري، ولا يمكن أن ينطبق وصف "فائقة المعرفة" على مَحبَّة أي إنسان مهما أن كان، المَسِيح وحده هو الذي وصفت محبته بهذا الوصف. على أساس هذه المَحبَّة أعطى يَسُوع المَسِيح تلاميذه وصيّة جديدة: "وصِيّة جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أن تُحِبّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبّونَ أَنْتُمْ أيضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (يُوحنّا 13: 34). فمَحبَّة المَسِيح هي أعظم مثال نقتدي به في محبتنا لبعض. لكن هذه المَحبَّة هي من نفس المَحبَّة الّتي يحب بها الآبُ ابنَه المبارك: "كَمَا أَحَبّنِي الآب كَذلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا" (يُوحنّا 15: 9). إن مَحبَّة المَسِيح لنا ليست كمَحبَّة البشر الصالحين، بل هي مَحبَّة الله نفسه. هذه المَحبَّة الّتي عبّر عنها الآب وبرهنها لنا من خلال الابن المحبوب المتجسّد "وَلكِنّ اللهَ بَيّنَ مَحَبّتَهُ لَنَا، لأنه وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ المَسِيح لأَجْلِنَا" (رُوميَة 5: 8). إن مَحبَّة المَسِيح غير مشروطة إذ لا يوجد شيء أبدًا يمكن أن يفصلنا عنها "مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحبَّة المَسِيح؟ أَشِدّةٌ أم ضَيْقٌ أم اضْطِهَادٌ أم جُوعٌ أم عُرْيٌ أم خَطَرٌ أم سَيْفٌ؟...فَإِنّي مُتَيَقّنٌ أنه لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوّاتِ، وَلاَ أمور حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أخرى، تَقْدِرُ أن تَفْصِلَنَا عَنْ مَحبَّة اللهِ الّتِي فِي المَسِيح يَسُوع رَبّنَا (رُوميَة 8: 35 – 39، غلاطيّة 2: 20، أفسس 3: 17-19، يُوحنّا الأولى 3: 16، 4: 10-12).
  • البر 
    ، المَسِيح البار – يقول الرسول بُطرس موبّخًا قادة اليَهُود "وَلكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدّوسَ الْبَارّ (أعمَال الرّسُل الرسل 3: 14) ويقول استفانوس في عظته الشهيرة واصفًا قساوة اليَهُود إنهم " قَتَلُوا الّذِينَ سَبَقُوا فَأَنْبَأُوا بِمَجِيءِ الْبَارّ" (7: 52). ونفس الحقيقة يؤكّدها يعقوب فيقول في رسالته: "حَكَمْتُمْ عَلَى الْبَارّ. قَتَلْتُمُوهُ. لاَ يُقَاوِمُكُمْ!" (يعقوب 5: 6). المَسِيح البار لم يفعل خطيّة ولم يوجد في فمه غش، عاش حياة القداسة الكاملة والبر الكامل. إنه الوحيد الذي عاش على هذه الأرض متحديًا الجموع: "من منكم يبكتني على خطيّة؟"
  • القداسة 
    ، القدوس. يقول الرسول بطرس موبخاً اليهود "وَلكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارّ" (أعمَال الرّسُل الرسل 3: 14" وعندما صلى المؤمنون في الكنيسة الاولى ورفعوا بنفس واحدة صوتاً إلى الله َوقالوا "...لأَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ اجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ الْقُدُّوسِ يَسُوعَ، الَّذِي مَسَحْتَهُ، هِيرُودُسُ وَبِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ" (أعمَال الرّسُل الرسل 4: 27. انظر أيضاً 2 كورنثوس 5: 21، عبرانيّين 4: 15، 7: 26، بُطرس الأولى 2: 22).
  • الغضب 
    ، غضب يَسُوع هو نفسه الغضب الإلهي، ففي مجيئة الثاني للدينونة سوف يقول الاشرار " لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ:«اسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ الْخَرُوفِ، 17لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ؟» (رؤيا 6: 16).
  • الحق 
    ، "مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقّا" (يُوحنّا 1: 14، 14: 6). إن يَسُوع هو "الحق." لم يتحدّث هنا يَسُوع كمعلّم أو حتى كنبي، فالمعلّم والنبي يشرح ويفسِّر التوراة ويستشهد بكتابات معلّمي اليَهُود كما هي مدوّنة في التلمود. إلا أن يَسُوع لم يتحدّث ولم يتبع هذا الطريق. ففي الموعظة على الجبل تحدّث بسلطان وقال "أما أنا فأقول"، ولم يقتبس يَسُوع المَسِيح اقتباسًا واحدًا في كُلّ تعاليمه من كتابات معلّمي اليَهُود. كما حثّ يَسُوع سامعيه على العمل بما يقوله لهم: "فكل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها..." (متّى 7: 24، 26). لم يتحدّث يسوع كأحد الأنبياء الذين كانوا يقولون دائمًا "هكذا قال الرب"، بل قال للجموع "أما أنا فأقول لكم" أكثر من 145 مرّة. كما بدأ يَسُوع كلامه أكثر من 25 مرّة بعبارة "الحق الحق أقول لكم" هذه العبارة الّتي لا نجدها في كتابات المعلّمين السابقين واللاحقين له.
  • الحكمة 
    ، حكمة الله – يقول الرسول بولس " فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ" (كورنثوس الاولى 1: 25، أيضاً انظر كولوسي 2: 3).
  • الامانة والصدق 
    من اكثر العبارات التى كررها شخص المسيح هي "الحق الحق" فهو الحق المطلق المتجسد الذي ليس في فمه غش (متّى 22: 16، لُوقا 20: 21، يُوحنّا 8: 40، 45).
كما يؤكّد العَهد الجَديد أن يَسُوع المَسِيح له كُلّ الصفات الإلهيّة الّتي هي صفات العظمة والجلال، الصفات الّتي لا يشارك الله فيها أحدٌ من البشر،

الصفات الّتي تميّزه هو وحده وتجعل منه الله. مثل:

  • الأزليّة 
    ، فالمَسِيح كائن منذ الأزل مع الآب (يُوحنّا 1: 1، 12: 41، كورنثوس الأولى 10: 4، عبرانيّين 1: 2). لقد شارك الآب في المجد قبل تأسيس العالم (يُوحنّا 17: 5). الآب أرسله وهو قد جاء إلى العالم (رُوميَة 8: 3، 2كورنثوس 8: 9، غلاطيّة 4: 4، يُوحنّا 1: 9، 3: 17، يُوحنّا الأولى 4: 9)، ولمعرفة المزيد راجع الفصل الخاص بموضوع أزليّة المَسِيح.
  • كلي القدرة 
    - إن الله وحده هو كلي القدرة والقوّة. طبعًا قدرة الله المطلقة ليس معناها أن يفعل الله كل شيء حتى لو ناقضت هذه الأفعال طبيعته وقداسته. وليس معناها أنه مطالب بفعل كُلّ شئ يستطيع عمله. فكل صفات الله تعمل معًا في تناغم تام وكامل، فالله يستخدم قدرته بما يتناسب مع حكمته ومقاصده. ومع أن العَهد الجَديد يتحدّث أحياننا عن يَسُوع الإنسان الكامل أنه تعب وجاع (مرقُس 4: 38)، إلا أنه في نفس الوقت يتحدّث عن يَسُوع كلي القدرة والقوّة، فها هو يَسُوع ينتهر البحر والريح فيطيعانه: "ثُمّ قَامَ وَانْتَهَرَ الرّيَاحَ وَالْبَحْرَ، فَصَارَ هُدُوء عَظِيمٌ. فَتَعَجّبَ النّاسُ قَائِلِينَ: «أي إنسان هذَا؟ فَإِنّ الرّيَاحَ وَالْبَحْرَ جَمِيعًا تُطِيعُهُ!» إن قدرة يَسُوع أقوى من المرض. ولقد شفى يَسُوع كُلّ أنواع الأمراض: شفى المرأة النازفة، والمرأة المنحنية، شفى الأبرص، والأخرس، والأصم، منح البصر للمولود أعمى كما شفى بارتيماوس الأعمى. شفى المفلوج (متّى 9: 32، 14: 12، مرقُس 1: 23 – 24، 5: 1 – 20، 7: 25 – 30). شفى يَسُوع بمجرّد الكلمة التي قالها عن بعد، وأقام الموتى بكلمة. ظهرت أيضًا قوّة يَسُوع في إشباع الجموع أكثر من مرّة عندما أشبع الخمسة الآلاف والأربعة الآلاف (متّى 14: 15 – 21، مرقُس 6: 35 – 44، متّى 15: 32 – 38، ومرقُس 8: 1- 9). إلا أن قيامة المَسِيح من بين الأموات هي أكبر دليل على قدرته الكليّة، فقيامة المسيح برهان على قوّة الله، فالمَسِيح هو قوّة الله ذاتها (كورنثوس الأولى 1: 18، 23 – 25، أفسس 1: 19-20، فليبي 3: 21، كولوسى 2: 10).
  • كلي الوجود 
    - عاش المَسِيح بالجسد في اليَهُوديّة حيث كان يجول ليُعلم ويشفي ويتحنّن، لكن المَسِيح –باللاهوت- موجودٌ في كُلّ مكان. لهذا قال يَسُوع المَسِيح بكلّ سُلطان هذا الوعد الرائع: "حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أو ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ» (متّى 18: 20)، كما أكّد المسيح وجوده مع تلاميذه وكُلّ المؤمنين به من خلال وعده القائل "وَعَلّمُوهُمْ أن يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلّ الأَيّامِ إلى انْقِضَاءِ الدّهْرِ. آمِينَ" (متّى 28: 20). فيَسُوع هو عمانوئيل الذي تفسيره "الله معنا." ويقول الرسول بُولُس عن شخص يَسُوع إنه يملأ الُكل "الّذِي نَزَلَ هُوَ الّذِي صَعِدَ أيضًا فَوْقَ جَمِيعِ السّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ الْكُلّ" (أفسس 4: 10).
  • لا يتغيّر 
    - ، أي أن الله لا يتغيّر في جوهره وصفاته ومقاصده. لكن عدم تغيّر الله لا يعني أن الله ساكن ولا يتحرّك ولا يتجاوب ولا يتأثّر بما يحدث لخلائقه. فثبات جوهر وصفات الله هي الضامن لمصداقيته وتحقيق مقاصده، فهو ليس كالبشر "لَيْسَ اللهُ إنسانا فَيَكْذِبَ، وَلاَ ابن إنسان فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلاَ يَفْعَلُ؟ أو يَتَكَلّمُ وَلاَ يَفِي؟" (العدد 23: 19). ففي عالم متغيّر باستمرار يظل ثبات الله وعدم تغيّره هو الضامن لأماننا وسلامنا "الّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلّ دَوَرَانٍ" (يعقوب 1: 17). يقتبس كاتب العبرانيّين من مزمور 102: 25 – 27 ليُؤكّد أن السماوات والأرض اللواتي خلقهن الابن سوف تبيد، أما هو فيبقى غير متغيّر «أَنْتَ يَا رَبّ فِي الْبَدْءِ أَسّسْتَ الأرض، وَالسّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَلكِنْ أَنْتَ تَبْقَى، وَكُلّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، وَكَرِدَاءٍ تَطْوِيهَا فَتَتَغَيّرُ. وَلكِنْ أَنْتَ أَنْتَ، وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى» (عبرانيّين 1: 10 -12). لأجل هذا يقول كاتب العبرانيّين عن شخص يَسُوع؛ رئيس إيماننا ومكمله إنه "يَسُوع المَسِيح هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإلى الأبدِ"(13: 8). برهن الرب يسوع المسيح على عدم تغييره أثناء خدمته الأرضيّة. فبينما كان يسوع يتحرّك من الأفراح إلى المدافن، ومن جُباه الضرائب الطمّاعين إلى الفقراء والضعفاء والزناة، إلى الفريسيّين الأبرار في أعين أنفسهم، إلى المرضى، إلى المقيّدين بالأرواح الشريرة، لم يتغيّر، بل ظل عادلًا، ومحبًا، وحكيمًا. قد تحرّك بمشاعر الاهتمام والشفقة في تجارب ومأسي، إلا أنه لم يفقد استقامته.
  • كُليّ المعرف 
    ة –الله وحده هو كلي المعرفة. يقول المرنّم في مزمور 139 "يَا رَبّ، قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرّيْتَ، وَكُلّ طُرُقِي عَرَفْتَ. لأنه لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي، إِلاّ وَأَنْتَ يَا رَبّ عَرَفْتَهَا كُلّهَا. مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيّ يَدَكَ. عَجِيبَةٌ هذِهِ الْمَعْرِفَةُ، فَوْقِي ارْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا" (1- 6). إلا أن ألأناجيل الأربعة تخبرنا بأن معرفة يَسُوع تتخطّى معرفة الإنسان الطبيعي للأمور والأشخاص. فقد شعر بأفكار الكتبة والفريسيّين قبل أن يتكلموا "فَابْتَدَأَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرّيسِيّونَ يُفَكّرُونَ قَائِلِينَ «مَنْ هذَا الّذِي يَتَكَلّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أن يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ؟» فَشَعَرَ يَسُوع بِأَفْكَارِهِمْ، وَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«مَاذَا تُفَكّرُونَ فِي قُلُوبِكُمْ؟ (لُوقا 5: 21 – 22). وعندما كانوا يراقبونه هل يشفي في السبت لكي يجدوا عليه شكاية، نقرأ أن يَسُوع علم أفكارهم "أَمّا هُوَ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ" (لُوقا 6: 7 – 8). وعندما كان يَسُوع يُخرج الشيطان من الأخرس وقوم من الجموع قالوا في أنفسهم إنه يُخرج الشياطين برئيس الشياطين "فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ:«كُلّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تَخْرَبُ، وَبَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى بَيْتٍ يَسْقُطُ" (لُوقا 11: 17). مرّة أخرى كان التلاميذ يفكّرون في أنفسهم "من عسى أن يكون أعظم فيهم؟ "فَعَلِمَ يَسُوع فِكْرَ قَلْبِهِمْ، وَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ (لُوقا 9: 47). كما أخبر بُطرس بما سيحدث في المستقبل وعن الإنكار ثلاث مرّات (متّى 26: 31 – 35). هذه الأمور الحقيقيّة تؤكّد أن معرفة يَسُوع تفوق معرفة الإنسان وحتى الأنبياء، فهو كلي المعرفة يعرف الماضي والحاضر والمستقبل (أنظر أيضًا، مرقُس 2: 8، يُوحنّا 1: 48، 2: 25، 6: 64، 21: 17، أعمال 1: 24، كورنثوس الأولى 4: 5، كولوسي 2: 3، 9، رؤيا 2: 23).
  • السلطان الإلهي 
    –أثناء حياته وخدمته الأرضيّة، أظهر يَسُوع المَسِيح سلطانًا إلهيًا، أي سلطانًا لا يملكه أحد إلا شخص الله وحده. ومن مظاهر هذا السلطان "غفران الخطايا"، فيعلّمنا الكِتَاب المُقدّس أن الخطيّة مُوجَّهة أولًا وأخيرًا ضد الله. ولا يملك إنسانٌ، مهما كان، سلطانًا أن يغفر الخطايا، فهذا الغفران حقٌ الله وحده. وحتى الأنبياء والكهنة قديمًا لم يغفروا الخطايا، فالأنبياء كانوا ينادون للشعب بالرجوع إلى الله حتى تُغفر خطاياهم، والكهنة كانوا يعلنون تطهير الإنسان من خطاياه ونجاسته بما يتناسب مع الشريعة الموسويّة. فقط يَسُوع المَسِيح هو الذي قال للخاطئ "مغفورة لك خطاياك"، وفي شفاءه للمفلوج قال له يَسُوع «يَا بُنَيّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: «لِمَاذَا يَتَكَلّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أن يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ؟» فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوع بِرُوحِهِ أَنّهُمْ يُفَكّرُونَ هكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكّرُونَ بِهذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيّمَا أَيْسَرُ، أن يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أم أن يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أن لابن الإنسان سُلْطَانًا عَلَى الأرض أن يَغْفِرَ الْخَطَايَا» (مرقُس 2: 5 – 10). لقد أظهر يَسُوع المَسِيح أيضًا سُلطانًا إلهيًا في تعليمه. فقد كان يُعلّم كمن له سلطان، فيَسُوع المَسِيح هو المعلم الوحيد الذي لم يرجع إلى أقوال علماء اليَهُود ولم يقتبس منها، بل قال "سمعتم أنه قيل...أما أنا فأقول" (متّى 5: 22، 28، 32، 34، 39، 44). إن السلطان الذي يعلم به يَسُوع هو سلطان الله نفسه. فقد دفع إليه كُلّ سلطان في السماء وعلى الأرض. إنه يتكلّم بسلطان الله وحده ويدعو المتعبين لينالوا الراحة بالإيمان به (متّى 11: 25 -27). هذا السلطان سيظهر بكماله في مجيئه الثاني عندما يقيم الرب الأموات بكلمة ويدين كُلّ الأحياء والأموات وحكمه هو الذي سيقرّر المصير النهائي لكُلّ إنسان (يُوحنّا 5: 24- 29).
ثانيًا، المَسِيح له أسماء الله

إنّ أسماء الله تخُص الله وحده لأن الاسم يُعلن طبيعة حامله، وأسماء الله تعلن طبيعته وصفاته. إلا أننا نجد العَهد الجَديد ينسب أسماء وألقاب الله ليَسُوع المَسِيح، هذه الأسماء والألقاب تؤكّد ألوهيته. سنتناول هنا اسميْن للمسيح "الله"، "والرب".

أوّلًا، المَسِيح "الله" 

لقد استخدم العَهد الجَديد اسم الجلالة الله وباليُونانيّ ثيوس Θεός للإشارة إلى شخص يَسُوع المَسِيح على عدة مرّات (يُوحنّا 1: 1، 18، 20: 28، رُوميَة 9: 5، تيطس 2: 13، بُطرس الثانية 1: 1، عبرانيّين 1: 8).

"فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ الله" (يُوحنّا 1: 1).

في حديثنا عن المَسِيح الأزلي في الفصل الثالث، تناولنا هذه الآية بالشرح والتحليل (انظر صفحة...) يُؤكِّد الرسول يُوحنّا في مقدّمة بشارته (1: 1- 18) أن الكلمة الذي هو في البدء كان عند الله ثم أتى على عالم الزمن والتاريخ. بكلمات أخرى، كيف أتى ابن الله إلى العالم وأصبح يَسُوع التاريخي. هنا نرى ثلاثة أمور عن المَسِيح الكلمة. أولًا، أزليّة الكلمة، فالفعل المستخدم "كان الكلمة" يأتي في الماضى المستمر ويشير إلى الوجود الأزلي للمسيح. ثانيًا، الكلمة الخالق، فأقنوم الابن اشترك مع الآب في عملية الخلق (1: 3)، فقد خلق العالم المادي والعالم الروحي، المرئي وغير المرئي. كما أن عبارة "كل شيء به صار" تشير إلى أن الخليقة أُوجدت من العدم. ثالثًا، الكلمة مُعطي الحياة: "فيه كانت الحياة" أي أنه سبب وجود الحياة ومصدرها. "وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ " وهنا تأكيد على لاهوت الكلمة، الابن المتجسِّد.

"أَجَابَ تُومَا وَقَالَ لَهُ: «رَبّي وَإِلهِي!» (يُوحنّا 20: 28).

يُسجِّل لنا الرسول يُوحنّا في نهاية إنجيله، ولثالث مرّة، أن يَسُوع المَسِيح لُقِّب بالله. فقد بدأ الإنجيل بتأكيد ألوهيّة المَسِيح وأن يسوع لُقّب مرتيْن باسم الجلالة في (1: 1، 1: 18). وهنا في نهاية الإنجيل يُؤكِّد البشير نفسَ الحقيقة إذ يذكر لنا اعتراف توما بالمَسِيح عندما قال "ربي وإلهي". فالإطار العام لإنجيل يُوحنّا كلّه يتلخّص في الاعتراف بأن يَسُوع هو "ابن الله". لم يصدّق توما كلام سائر التلاميذ عندما أخبروه أن يَسُوع قد قام من بين الأموات، وأن يسوع ظهر لهم في غيابه. كان رد فعل توما هو الشك "فَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يُوحنّا 20: 25). "وَبَعْدَ ثَمَانِية أَيّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أيضًا دَاخِلًا وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوع وَالأبوَابُ مُغَلّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكُمْ!». ثُمّ قَالَ لِتُومَا: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إلى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنًا». أَجَابَ تُومَا وَقَالَ لَهُ: «رَبّي وَإِلهِي!» (20: 26-28). من المُهم أن نلاحظ هنا أن البشير يُوحنّا يُسجِّل لنا حوار يَسُوع المَسِيح مع توما، هذا الحوار الذي بدأه يَسُوع بالحديث إلى توما، ثم إجابة توما ليَسُوع وينتهي بحديث المَسِيح له مرّة ثانية. في هذا الحديث يتوجّه توما مباشرة إلى يَسُوع المَسِيح ويقول له "ربي وإلهي"، هنا يُخاطب توما يَسُوع المَسِيح بـ "ربي وإلهي"؛ يهوه إلوهيم. لا ننسى أن توما والتلاميذ جميعهم أتوا من خلفيتهم اليَهُوديّة، وهم يعتبرون العبادة لغير الرب تجديفًا. كما أن يَسُوع لم يعّلق أو يعترض على سُجودهم له، بل بالعكس لقد قَبِل اعتراف توما وإعلانه. كُلّ هذا يُؤكّد أن المَسِيح هو ابن الله المتجسّد الذي يستحق العبادة وال سُجود.

"وَلَهُمُ الآباءُ، وَمِنْهُمُ المَسِيح حَسَبَ الْجَسَدِ، الْكَائِنُ عَلَى الْكُلّ إِلهًا مُبَارَكًا إلى الأبدِ. آمِينَ" (رُوميَة 9:5).

في تناوله لماضى شعب إسرائيل وللبركات الّتي باركهم بها الرب، يقول الرسول بُولُس "ومِنهُمُ المَسِيح حَسَبَ الْجَسَدِ، الْكَائِنُ عَلَى الْكُلّ إِلهًا مُبَارَكًا إلى الأبدِ. آمين". إن الإشارة هنا هي إلى شخص يَسُوع المَسِيح، الذي هو كائن على الكل، إلهًا مباركًا. فالعبارة الأولى "بحسب الجسد" تشير إلى ناسوت المسيح، أما العبارة الثانية الموازية لها "الْكَائِنُ عَلَى الْكُلّ إلهًا مباركًا" فتشير إلى لاهوته.

مُنْتَظِرِينَ الرّجَاءَ الْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ اللهِ الْعَظِيمِ وَمُخَلّصِنَا يَسُوع المَسِيح (تيطس 2: 13).

مرّة ثانية يستخدم الرسول بُولُس اسم الجلالة "الله" ليشير به إلى يَسُوع المَسِيح. إن اللقبيْن "الله والمخلص" كانا لقبيْن شائعيْن للمسيح في القرن الأوّل الميلادي. وفي اليَهُوديّة وبين يَهُود الشتات كانا اللقبان يُستخدمان، لقرون طويلة، للإشارة إلى الرب يهوه، اللإله الواحد. وبما أن كلمة "ظهور" لا تستخدم لوصف الآب بل لوصف الابن وهي إشارة إلى مجيئه الثاني المصطحب بمجده، إذن يُعتبر هذا الوصف "الله العظيم ومخلصنا"هو وصف للرب يَسُوع المَسِيح.

"سِمْعَانُ بُطرس عَبْدُ يَسُوع المَسِيح وَرَسُولُهُ، إلى الّذِينَ نَالُوا مَعَنَا إيمانا ثَمِينًا مُسَاوِيًا لَنَا، بِبِرّ إِلهِنَا وَالْمُخَلّصِ يَسُوع المَسِيح" (2 بُطرس 1: 1).

تتحدّث هذه الآية عن شخص واحد هو شخص يَسُوع المَسِيح، وكما هو الحال في تيطس 2: 13 فالعبارة "إلهنا ومخلصنا" (الله المخلّص) تشير إلى شخص واحد هو الله. وكلمة مخلّص في العَهد الجَديد تشير دائمًا إلى شخص يَسُوع ، وتأتي غالبًا مصحوبة بأداة التعريف. فالذين آمنوا نالوا معنا إيمانًا متساويًا لنا ببر إلهنا والمخلّص الذي هو شخص يَسُوع المَسِيح.

"وَأَمّا عَنْ الابن: «كُرْسِيّكَ يَا أَللهُ إلى دَهْرِ الدّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ" (عبرانيّين 1: 8).

يبدأ كاتب رسالة العبرانيّين بالتأكيد على تفرُّد وسمو يَسُوع فوق الملائكة، فالملائكة هم كائنات مخلوقة لخدمة الله (عبرانيّين 1: 7). أما الابن فهو

الله (8-9)، لهذا فيَسُوع المَسِيح أعظم من الملائكة لأنه هو الله. لتأكيد هذه الحقيقة يقتبس كاتب العبرانيّين من مزمور 45: 6-7 "وأما عن الابن، كرسيك يا الله، أي الابن، إلى دهر الدهور"، فالابن يتفوّق في طبيعته وفي وظيفته على الملائكة. لهذا يخاطب كاتب العبرانيّين المَسِيح باللقب "الله".

ثانيًا، المَسِيح الرب 

مع أن الاسم أو اللقب "الرب" يُمكن أن يُستخدم للتعبير عن الاحترام والتقدير وهو لقب يستخدمه العبد في الإشارة إلى سيده (متّى 13: 27، 21: 30، يُوحنّا 4: 11). لكن من الناحية الأخرى استخدمت الترجمة السبعينيّة، وهي ترجمة العهد القديم إلى اللغة اليُونانيّة، اللقبَ كريوس لترجمة اسم الرب "يهوه" فقد وردت كلمة كريوس في الترجمة السبعينيّة LXX أكثر من 6800 مرّة. لهذا فإن كُلّ العارفين والمتكلّمين باليُونانيّة من اليَهُود يعلمون أن كريوس هي ترجمة لاسم الرب "يهوه".

وأول من استخدم هذا اللقب ليشير به إلى المَسِيح هم جوقة الملائكة الّتي ظهرت للرعاة مبشّرة إياهم بميلاد المَسِيح "أنّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلّصٌ هُوَ المَسِيح الرّبّ" (لُوقا 2: 11).

وعندما جاءت مريم العذراء لزيارة أليصابات، وبمجرد أن دَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيّا وَسَلّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ. ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرّوحِ الْقُدُسِ، وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أن تَأْتِيَ أم رَبّي إِلَيّ؟" (لُوقا 1: 40 – 43).. وعندما بدأ يُوحنّا المعمدان خدمته مناديًا بالتوبة والرجوع للرب، كانت خدمته تحقيقًا لنبوة إشعياء النبي "فَإِنّ هذَا هُوَ الّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النّبِيّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرّيّة: أَعِدّوا طَرِيقَ الرّبّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً» (متّى 3: 3)، وهي اقتباس من سفر إشعياء 40: 3 فيوحنا المعمدان يُعدُّ، بخدمته، طريقَ الرب. ونحن نعرف يقينًا أن اسم الرب في العهد القديم هو يهوه، ويُوحنّا هنا يُعد الطريق لمجيء المَسِيح. وخلال حوار يَسُوع المَسِيح مع اليَهُود عن طبيعة المسيّا وعن علاقته بداود الملك، قال لهم «مَاذَا تَظُنّونَ فِي المَسِيح؟ ابن مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ: «ابن دَاوُدَ». قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرّوحِ رَبّا؟ قَائِلًا: قَالَ الرّبّ لِرَبّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِيني حَتّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّا، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟».

وهذه الحقيقة أكّدها أيضًا رُسل المَسِيح في إعلانهم أن يَسُوع المَسِيح هو الرب. يقول بُولُس الرسول "...وَأَنْتُمْ مُتَوَقّعُونَ اسْتِعْلان رَبّنَا يَسُوع المَسِيح، الّذِي سَيُثْبِتُكُمْ أيضًا إلى النّهَاية بِلاَ لَوْمٍ فِي يَوْمِ رَبّنَا يَسُوع المَسِيح" (كورنثوس الأولى 1: 7-8). ويقول أيضًا في نفس الرسالة "لِذلِكَ أُعَرّفُكُمْ أن لَيْسَ أَحَدٌ وَهُوَ يَتَكَلّمُ بِرُوحِ اللهِ يَقُولُ: «يَسُوع أَنَاثِيمَا». وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أن يَقُولَ: «يَسُوع رَبٌّ» إِلاّ بِالرّوحِ الْقُدُسِ" (12: 3). كما يُؤكّد كاتب العبرانيّين ربوبيّة المَسِيح فيقول «وأَنْتَ يَا رَبّ فِي الْبَدْءِ أَسّسْتَ الأرض، وَالسّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَلكِنْ أَنْتَ تَبْقَى، وَكُلّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، وَكَرِدَاءٍ تَطْوِيهَا فَتَتَغَيّرُ. وَلكِنْ أَنْتَ أَنْتَ، وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى» (عبرانيّين 1: 10-12). هذا النص هو اقتباس مباشر من مزمور 102، يستخدمه كاتب العبرانيّين هنا ليبرهن من خلاله على سُمو المَسِيح، فالمَسِيح هو الله الخالق وهو الذي منذ البدء أسس السماوات والأرض، وهو أيضًا أبدي لا يتغيّر. هذه الحقيقة ختم بها كاتب العبرانيّين رسالته عندما أكّد على عدم تَغيُّر المَسِيح "يَسُوع المَسِيح هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإلى الأبدِ" (13: 8). فيَسُوع المَسِيح هو «مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبّ الأَرْبَاب" (رؤيا 19: 16).

ثالثًا، المَسِيح له أعمال الله 

إنّ الإيمان بألوهيّة المَسِيح لم يُبنَ فقط على أساس أن المَسِيح نسبت له أسماء الله أو صفات الله، بل توجد حقيقة أخرى مُهمة: إن كُلّ ما يعمله الله يعمله المَسِيح، فأعمال المَسِيح هي أعمال الله نفسه. فمع أن العَهد الجَديد يركّز على عمل المَسِيح الفدائي في الصليب والقيامة والّتي تمثّل قلب البشارة السارة؛ "الإنجيل"، إلا أن العَهد الجَديد يخبرنا أيضًا عن أعمال إلهيّة عملها ويعملها يَسُوع المَسِيح ابن الله الأزلي. إن ألوهيّة المَسِيح لم تكن أبدًا من اختراع إنسان ولا من ابتكار كنيسة ما، بل هي الاستنتاج الطبيعي لكلّ من يدرس حياة يَسُوع المَسِيح وأعماله وتعاليمه. فـ "من هو هذا؟" الذي يُقيم ويُحيى، ويشفي ويُحرّر، ويغفر الخطايا ويدعو الإنسان المتعب إلى شخصه ليجد الراحة. من هو هذا الذي يقول "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن؟". من هو هذا الذي يقول "سمعتم أنه قيل أما أنا فأقول". من هو هذا الذي يمارس سلطانه على البحر والريح بمجرّد الكلمة؟ الذي بكلمة منه تيبس شجرة التين؟ من هو هذا الذي يتحدّث عن ساعة وطريقة موته وعن ساعة قيامته من بين الأموات؟ من هو هذا الذي يقول "من منكم يبكتني على خطيّة؟" وبالرغم من أنه عاش في عالم ساقط إلا أنه كان كُلي القداسة والنقاء؟ إنه بكل تأكيد يَسُوع المَسِيح "ابن الله" المتجسّد.

إن أعمال يَسُوع المَسِيح تُؤكّد لاهوته وهذه الأعمال يمكن تلخصيها في الآتي: الخلق والعناية وغفران الخطايا.

الخلق: 

ينسب العَهد الجَديد عمل الخلق لشخص يَسُوع المَسِيح، الكلمة المتجسَّد، فيقول يُوحنّا البشير "كُلّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمّا كَانَ...كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ" (يُوحنّا 1: 3، 10). في أكثر من موضع نقرأ عن يَسُوع المَسِيح الابن الأزلي الذي خلق الكون. يقول الرسول بُولُس في كولوسي 1: 15 – 20 "الّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلّ خَلِيقَةٍ. فَإِنّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلّ: مَا في السّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأرض، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أم سِيَادَاتٍ أم رِيَاسَاتٍ أم سَلاَطِينَ. الْكُلّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الّذِي هُوَ قَبْلَ كُلّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلّ وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ. الّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدّمًا فِي كُلّ شَيْءٍ. لأنه فِيهِ سُرّ أن يَحِلّ كُلّ الْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلّ لِنَفْسِهِ، عَامِلًا الصّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأرض، أم مَا فِي السّمَاوَاتِ". ويقول كاتب رسالة العبرانيّين "اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلّمَ الآباءَ بِالأنبياء قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلّمَنَا فِي هذِهِ الأَيّامِ الأخيرةِ فِي ابْنِهِ، الّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلّ شَيْءٍ، الّذِي بِهِ أيضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ .." (1: 1-3). ويقول الرسول بُولُس "فَإِنّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلّ: مَا في السّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأرض" (كولوسي 1: 16). وفي كورنثوس الأولى 8: 6 ربط الرسول بُولُس بين شخصيّة المَسِيح ويهوه في العهد القديم حيث يقول "لكِنْ لَنَا إِلهٌ وَاحِدٌ: الآب الّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوع المَسِيح، الّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ بِهِ."

العناية: 

يعتني الله بخليقته كُلّ لحظة، كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم. لهذا يقول الرسول بُولُس عن الله المعتني "إِذْ هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلّ شَيْءٍ ... لأَنّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا: لأَنّنَا أيضًا ذُرّيّتُهُ" (أعمَال الرّسُل 17: 25، 28). ويقول الرّسُول بُولُس عن المَسِيح الخالق المعتني "فَإِنّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلّ: مَا في السّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأرض، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أم سِيَادَاتٍ أم رِيَاسَاتٍ أم سَلاَطِينَ. الْكُلّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الّذِي هُوَ قَبْلَ كُلّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلّ" (كولوسي 1: 16-17). "فيه يَقُومُ الكُلُ" كما يقول كاتب العبرانيّين ”الّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ" (1: 3). ففي المَسِيح، ومن خلال قوّة المَسِيح "يقوم الكل" لأنه "حامل كُلّ الأشياء". هذه الحقيقة أكّدها الرب يَسُوع المَسِيح عندما قال لليَهُود «أَبِي يَعْمَلُ حَتّى الآن وَأَنَا أَعْمَلُ» (يُوحنّا 5: 17). فكما أن الآب يعتني بالكون كذلك الابن المتجسّد يَسُوع المَسِيح يعمل نفس عمل الآب، ويعتني بالمخلُوقات وبالكون، فشفاء المفلوج يوم السبت كان عمل عناية إلهي.

غفران الخطايا: 

فمع أن الله وحده هو الغافر للخطايا، لكن يَسُوع المَسِيح ادّعى هذا الحق لنفسه عندما شفى الإنسان المفلوج. تقول القصّة الكتابيّة "فَلَمّا رَأَى يَسُوع إيمانهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». بمجرّد أن سمع معلّمو اليَهُود والكتبة هذا القول قالوا في قلوبهم «لِمَاذَا يَتَكَلّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أن يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ؟" وهذه حقيقة، فالله وحده هو الذي له سلطان غفران الخطايا. (لمزيد من المعرفة عن هذه الحقيقة الرائعة يرجى الرجوع إلى الفصل الثاني من هذا الكتاب).

المعجزات 

تناولنا في فصل سابق، بالشرح والتحليل، معجزات يَسُوع المَسِيح، وعرفنا أن يَسُوع كان يعي طبيعة شخصه ولاهوته (صفحة...)، لكن هنا أريد أن أؤكّد على عدّة حقائق مهمّة بخصوص معجزات يَسُوع، وأسباب تفرد يَسُوع عن كل من استخدمهم الله في عمل آيات ومعجزات؛ سواء السابقين لتجسُّده أم اللاحقين له.

  • أوّلًا، عمل يَسُوع كُلّ هذه المعجزات والعجائب بقوّة سلطانه الشخصي وليس كباقي رجال الله الذين كانوا يتضرعون إلى وجه الرب ليصنع من خلالهم المعجزات. فيَسُوع المَسِيح هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يقول للميت "لك أقول قم"، "وهلم خارجًا"(يُوحنّا 11: 44). كان يَسُوع يشفي بكلمة، كان يشفي عن قرب وعن بعد، فبمجرّد خروج الكلمة من فمه سواء كان المريض قريبًا منه أو بعيدًا عنه كان يُشفى. فكلمته الخارجة من فمه لها كُلّ السلطان وكذلك لمسة يديْه فيها كُلّ القوّة، وأحيانا كان يَسُوع يشفي بدون كلمة أو لمسة. يكفي أن يأتي المريض إليه ويلمس هُدب ثوبه فينال الشفاء، كالمرأة نازفة الدم (مرقُس 5: 28).
  • ثانيًا، لأن سلطان يَسُوع على المرض والأرواح الشريرة سلطان نابع من طبيعته لذا أعطى يَسُوع تلاميذه هذا السلطان حتى يعملوا آيات وعجائب باسمه "ثُمّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أرواح نَجِسَةٍ حَتّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلّ مَرَضٍ وَكُلّ ضُعْفٍ" (متّى 10: 1).
رابعًا، قبول المَسِيح للسُجود 

يُؤكّد الكِتَاب المُقدّس بعهديْه القديم والجديد أن الله وحده هو المستحق للعبادة وال سُجود، فهو الإله الخالق الذي قال فكان وأمر فصار. وهو أيضًا كليّ القداسة والقدرة والسلطان، وهو الإله الغيور الذي لا يعطي مجده لآخر. ولهذا يؤكّد لشعبه «أَنَا الرّبّ هذَا اسْمِي، وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ، وَلاَ تَسْبِيحِي لِلْمَنْحُوتَاتِ" (إشعياء 42: 8). كما أن أوّل وصيّة من الوصايا العشر تؤكّد هذه الحقيقة "لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أخرى أَمَامِي. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمّا فِي السّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأرض مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأرض. لاَ تَسْجُدْ لَهُنّ وَلاَ تَعْبُدْهُنّ، لأَنّي أَنَا الرّبّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ" (خروج 20: 3- 5). فعبادة المخلُوقات خطيّة وتجديف على اسم الرب (أعمَال الرّسُل 14: 14- 15، رُوميَة 1: 18 – 23؛ رؤيا 19: 10)، وبسبب هذه الخطيّة أتت دينونة الله على شعبه في القديم (تثنية 4: 16 – 18، ملوك الأوّل 11: 1 – 11). لكن عندما نقرأ البشائر الأربع الّتي تتناول حياة يَسُوع المَسِيح، وباقي العَهد الجَديد نجد أن تلاميذ المَسِيح وكُلّ أتباعه قدّموا له ال سُجود والعبادة، فيَسُوع هو محور العبادة، ويَسُوع هو من له تُرفع له الصلوات. فكل ما كان اليَهُود يعتبرونه حقًا للرب الإله يهوه وحده، قدّمه التلاميذ ليَسُوع المَسِيح.

لقد أتى كثيرون إلى يَسُوع، وسجدوا له، وقدّموا له العبادة، وهو –بدوره- لم يرفض ذلك الفعل ولم ينتهرهم؛ فالأبرص سجد له وطلب منه أن يشفيه (متّى 8: 2) ورئيس المجمع سجد له وطلب منه أن يشفى ابنته (متّى 9: 18) وكذلك أم يعقوب ويُوحنّا سجدت له وطلبت منه خدمه لابنيْها (متّى 20: 20). طبعًا هذه المواقف يفسّرها البعض على أن كلمة ال سُجود الواردة فيها بروسكونيسيس، ما هي إلا تعبير عن الاحترام والتقدير وليس لأن هؤلاء الأشخاص أدركوا أن يَسُوع هو الله. إلا أن قراءتنا لإنجيل متّى بتمعُّن تبرهن على أن كلمة سُجود لا تعني فقط الاحترام والتقدير، بل تعني العبادة. ففي تجربة يَسُوع المَسِيح في البريّة نقرأ أن الشيطان أراه جميع ممالك العالم، وقال له «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إن خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي». حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوع: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأنه مَكْتُوبٌ: لِلرّبّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». لنلاحظ هنا أن يَسُوع أدرك أن قول الشيطان "إن خَرَرتَ وَسَجَدتَ لِي" لا تعني أن قدّمت لي الاحترام والتقدير، لكنها تعني "إن قدّمت لي العبادة" ولهذا قال للشيطان "... مَكْتُوبٌ: لِلرّبّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (متّى 4: 8 – 9، تثنية 6: 13). إذن كلمة "سجد ويسجد" هنا تعني تقديم العبادة وليس مجرّد إظهار الاحترام. وموضوع العبادة هو الله وحده، إلا أن يَسُوع قَبِل أن يكون هو موضوع سُجود وعبادة كثيرين. عندما كان التلاميذ في السفينة في وسط البحر وكادت السفينة أن تغرق من شدة الأمواج والرياح المضادة، أبصر التلاميذ يَسُوعَ أتيًا إليهم ماشيًا على البحر، فاضطربوا وخافوا وظنّوه خيالًا، فقال له بُطرس "إن كنت أنت هو، فمُرني أن آتي إليك على الماء. فقال له يسوع "تعال". فنزل بُطرس من السفينة ومشى على الماء ليأتي إلى يَسُوع. فبعدما أنقذ يَسُوع بُطرس من الغرق بسبب ضعف إيمانه، ودخلا السفينة سكنت الريح. ويقول متى "وَالّذِينَ فِي السّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابن اللهِ!» (متّى 14: 33، 21: 15 – 16، 28: 9، 17، يُوحنّا 20: 8). لقد أدرك التلاميذ أن يَسُوع أعظم من كونه إنسانًا عاديًا، فسلطانه على الطبيعة أعطاهم أن يدركوا أنه أعظم من إنسان. إنه ابن الله المتجسّد، ولهذا سجدوا له. مرّة أخرى، قدّم التلاميذ ال سُجود ليَسُوع عندما قابلهم بعد قيامته وقبيل صعوده إلى السماء "وَلَمّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ" (متّى 28: 17). إذا قارنّا بين تجربة يَسُوع المَسِيح من الشيطان عندما قال الشيطان له "أعطيك كُلّ هذه الممالك إن سجدت وخررت لي" ورفْض المَسِيح لهذا الطلب من جانب، وبين سُجود التلاميذ له قبيل الصعود وإعلانه أنه «دُفِعَ إِلَيّ كُلّ سُلْطَانٍ فِي السّمَاءِ وَعَلَى الأرض." من جانب ثان، لتأكّد لنا أن ما رفضه المَسِيح من الشيطان أخذه من الآب السماوي. والبشر -بما فيهم التلاميذ- يسجدون ويتعبّدون لمن له وحده السلطان في السماء وعلى الأرض، أي الله؛ الابن المتجسَّد. على هذه الأساس رفض بُطرس سُجود كرنيليوس له "وَلَمّا دَخَلَ بُطرس اسْتَقْبَلَهُ كَرْنِيلِيُوسُ وَسَجَدَ وَاقِعًا عَلَى قَدَمَيْهِ. فَأَقَامَهُ بُطرس قَائِلًا: «قُمْ، أَنَا أيضًا إنسان» (أعمَال الرّسُل 10: 25) ورفض الملاك سُجود يُوحنّا له أكثر من مرّة في سفر الرؤيا "فَخَرَرْتُ أَمَامَ رِجْلَيْهِ لأَسْجُدَ لَهُ، فَقَالَ لِيَ: «انْظُرْ! لاَ تَفْعَلْ! أَنَا عَبْدٌ مَعَكَ وَمَعَ إِخْوَتِكَ الّذِينَ عِنْدَهُمْ شَهَادَةُ يَسُوع. اسْجُدْ ِللهِ" (رؤيا 19: 10)، "وَأَنَا يُوحنّا الّذِي كَانَ يَنْظُرُ وَيَسْمَعُ هذَا. وَحِينَ سَمِعْتُ وَنَظَرْتُ، خَرَرْتُ لأَسْجُدَ أَمَامَ رِجْلَيِ الْمَلاَكِ الّذِي كَانَ يُرِينِي هذَا. فَقَالَ لِيَ: «انْظُرْ لاَ تَفْعَلْ! لأَنّي عَبْدٌ مَعَكَ وَمَعَ إِخْوَتِكَ الأنبياء، وَالّذِينَ يَحْفَظُونَ أقوال هذَا الْكِتَابِ. اسْجُدْ ِللهِ!» (رؤيا 22: 8 -9). والسبب الواضح لرفض الملاك ل سُجود يوحنا، في كُلّ موقف، هو أن ال سُجود يجب أن يكون لله وحده "اسجُد للِه." إن قبول يَسُوع للعبادة وال سُجود برهان قوي على معرفته الحقيقيّة لطبيعة شخصه، فهو يعرف من هو، ويعرف أنه الكلمة المتجسِّد، ابن الله، الإله الحق والإنسان الحق. فمع أن يَسُوع لم يطلب السُجود من أحد ولا مرّة واحدة، إلا أنه قبل السُجود حوالي عشر مرّات في البشائر الأربع.

  1. سُجود المجوس له وهو طفل (متّى 2: 11).
  2. سُجود المولود أعمى له بعد أن شفاه (يُوحنّا 9: 30 – 38).
  3. سُجود توما واعترافه "ربي وإلهي" (يُوحنّا 20: 28).
  4. سُجود بُطرس ليَسُوع (لُوقا 5: 8).
  5. سُجود الرئيس الذي ماتت ابنته (متّى 9: 18).
  6. سُجود الرجال الذين كانوا في السفينة (متّى 14: 33).
  7. سُجود بُطرس ويعقوب ويُوحنّا له في حادثة التجلي (متّى 17: 5).
  8. سُجود أم يعقوب ويُوحنّا (متّى 20: 20).
  9. سُجود المرأتيْن بعد قيامته (متّى 28: 9).
  10. سُجود التلاميذ (متّى 28: 17).
الفصل الرابع
»والكلمة صار جسدًا» 

إن عقيدتنا في «إنسانيّة يَسُوع المَسِيح» هي واحدة من أوائل العقائد المَسِيحيّة التي تعرّضت للإنكار والرفض في تاريخ الكنيسة؛ ففي القرن الأوّل والثاني الميلادييْن تعرّضت هذه الحقيقة للرفض من قبل أصحاب الفكر الغنوسي الذين كانوا ينادون بأن المادة شر والروح خير، وعلى هذا الأساس تمّ رفض إنسانيّة المَسِيح لأن الجسد شر، ولا يمكن أن يكون المَسِيح –حسب وجهة نظرهم- قد أخذ جسدًا مثلنا من لحم ودم. قاد هذا الفكر الرّسُول يُوحنّا إلى النظر إلى أولئك المنادين به على أنهم ضد المَسِيح فقال «بِهذَا تَعْرِفُونَ رُوحَ اللهِ: كُلُّ رُوحٍ يَعْتَرِفُ بِيَسُوع المَسِيح أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ فَهُوَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوع المَسِيح أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ. وَهذَا هُوَ رُوحُ ضِدِّ المَسِيح الذي سَمِعْتُمْ أَنَّهُ يَأْتِي، وَالآنَ هُوَ فِي الْعَالَمِ» (يُوحنّا الأُولى 4: 2–3). ويقول أيضًا في الرسالة الثّانيَة «قَدْ دَخَلَ إلى الْعَالَمِ مُضِلُّونَ كَثِيرُونَ، لاَ يَعْتَرِفُونَ بِيَسُوع المَسِيح آتِيًا فِي الْجَسَدِ. هذَا هُوَ الْمُضِلُّ، وَالضِّدُّ لِلْمَسِيحِ» (7)، أي أن المَسِيح قد جاء في الجسد. وكما أن إيماننا بلاهوت المَسِيح مهم كذلك إيماننا بناسوته أيضًا، وأي فكر ينكر أيًا منهما يعتبر فكرًا خاطئًا، ومن يروّج له يُقاوم عمل يَسُوع المَسِيح، ويقدّم صورة غير حقيقيّة عنه.

في الفصل السابق تناولنا لاهوت المَسِيح «إله حق من إله حق» كجزء مهم جدًا في شخصيته. إنه ابن الله، الكلمة الأزلي. أما في هذا الفصل فنتناول الطبيعة الأخرى المكوّنة لشخص يَسُوع المَسِيح وهي الطبيعة البشريّة أو إنسانيته. يقول البشير يُوحنّا «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآب، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (1: 14). هذا هو أساس التجسّد، الكلمة الأزلي، المساوي للآب في الجوهر «صار جسدًا». يقول الرّسُول بُولُس إن يَسُوع أتم عمل المصالحة في جسم بشريته، «وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا أَجْنَبِيّين وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ الآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ» (كولوسي 1: 21- 22). كما يقول في رسالة أفسُس «مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ» (1: 15). «فَاللهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيّة، وَلأَجْلِ الْخَطِيّة، دَانَ الْخَطِيّة فِي الْجَسَدِ» (رُوميَة 8: 3). فالمَسِيح الذي وُضع أقل من الملائكة (العبرانيّين 2: 9–10) صار مماثلًا لنا «إِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أيضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الذي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ» (2: 14). ويقول الرّسُول بُطرُس عن يَسُوع «مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ» (1بُطرس 3: 18، 4: 1).

التجسّد

عندما صار الله إنسانًا 

كيف لكلمة الله الأزلي (يُوحنّا 1: 1) أن يصير إنسانًا (يُوحنّا 1: 14)؟ هذا هو السؤال الأساسي في عقيدة التجسّد. السؤال الذي تعتبر الإجابة عليه مهمّة بل وحتميّة، فالإيمان المَسِيحي مركزه شخص يَسُوع المَسِيح، فالمَسِيحيّة هي المَسِيح وقلب الإيمان بالمَسِيح الإيمان بمجيء الكلمة الأزلي، اللوجوس، ودخوله متجسّدًا إلى العالم، إلى حيز الزمن والمكان من خلال ميلاده من مريم العذراء. يقول قانون الإيمان النيقاوي «الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسّد من الروح القدس، ومن مريم العذراء». لقد صار ابنُ الله إنسانًا!

معنى التجسّد
تعريف التجسّد: 

إن التجسّد ليس معناه أن الله قد تحوّل إلى إنسان، فهذا المفهوم خاطئ وغير كتابي؛ فالله لم يتحوّل إلى إنسان بل «صار جسدًا» والكلمة «صار» لا تفيد التحوّل، لكنها تفيد الاتخاذ، أي أن الكلمة اتخذ جسدًا وصار إنسانًا بدون أن يطرأ أي تغيير على لاهوته. ولهذا فالتجسّد هو أن الابن الأزلي اتخذ طبيعة إنسانية بجانب طبيعته الإلهية، فاللاهوت ملازم للناسوت من غير انفصال ولا امتزاج. كما أن التجسّد ليس معناه أن إنسانًا صالحًا صار إلهًا. هذه البدعة هي «بدعة التبنّي» ويقول أصحابها إن يَسُوع، كونه شخصًا صالحًا وبارًا، تبنّاه الله أثناء معموديته. طبعًا هذا الفكر ينفي لاهوت المَسِيح ويجعله غير أزلي وغير مساوٍ للآب في الجوهر. لكن التجسّد هو أن الابن الأزلي، كلمة الله الذي هو موجود قبل البدء اتخذ طبيعة بشريّة من خلال ميلاده من مريم العذراء. في أحشاء العذراء مريم، حلّ الله الكلمة واتحد ببذرة الحياة اتحادًا تامًا وكاملًا، ففيه «يحل كل ملء اللاهوت جسديًا» (كولوسي 2: 14) يقول الرّسُول بُولُس عن تجسّد الكلمة «وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تيموثاوس 3: 16).

التجسد هو أن المَسِيح الابن، الأزلي مع الآب، أخذ في شخصيته الإلهيّة طبيعة إنسانيّة جديدة ودخل بها إلى العالم حتى يُخلّص الخطاة. فالمَسِيح هو كلمة الله الأزلي الذي دخل إلى العالم في مهمّة رحيمة بالإنسان الخاطئ. فالابن الوحيد الذي هو فوق طبيعي دخل إلى العالم بطريقة فوق طبيعية ليصنع خلاصًا فوق طبيعي للبشر. ولهذا فالميلاد العذراوي عنصر مهم جدًا في الإيمان الكتابي. فعمل المَسِيح الفدائي والنيابي عن الخطاة يعتمد ولا يمكن أن ينفصل عن الإيمان بميلاده المعجزي من عذراء. لهذا فإن إنكار الميلاد العذراوي، فوق الطبيعي، هو إنكار لعمل المَسِيح الفدائي.

الميلاد العذراوي 

إن الميلاد العذراوي هو المعجزة العظيمة والوسيلة التي دخل بها المَسِيح إلى العالم. قال الملاك ليوسف النجار «يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أن تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأن الذي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (متّى 1: 20)، وعندما قالت مريم العذراء للملاك «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» كانت الإجابة «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أيضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لُوقا 1: 34-35).

لقد كان الميلاد العذراوي معجزة وآية، يقول البشير متّى «قَبْلَ أن يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (متّى 1: 18)، فلم يكن حبل مريم طبيعيًا ناتجًا عن علاقة بين امراة ورجل، بل كان حبلًا معجزيًا «قبل أن يجتمعا». ويبرهن متّى على الميلاد العذراوي بأكثر من عبارة وحقيقة.

  • أولًا: وُجدت مريم حُبلى قبل أن تجتمع مع يوسف.
  • ثانيًا: كان يوسف رجلًا بارًا وقد فكّر في أن يتصرّف باحترام وتقدير لمريم «لَمْ يَشَأْ أن يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا. وَلكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هذِهِ
  • الأُمُورِ، إذا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلًا:» (1: 19).
  • ثالثًا: وفيما يوسف متفكّر في هذه الأمور ظهر له ملاك الرب وقال له «يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أن تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأن الذي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (1: 20).

أما لُوقا فقد تتبع كل شيء بتدقيق وأكّد الميلادي العذراوي المعجزي ليَسُوع المَسِيح. ذكر لُوقا سؤال مريم للملاك «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» (1: 34). كما سجّل لُوقا جواب الملاك على سؤال مريم فقال «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أيضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ الله ... لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى الله» (1: 35، 37).

لقد أكّد ت الأناجيل بما لا يدع أدنى مجال للشك أن حبل مريم كان بدون تدخُّل رجل بل كان حبلًا معجزيًا بالروح القدس، فحبل مريم وميلاد يَسُوع كانا آية أو معجزة صنعها الرب القادر على كل شيء.

أهميّة الميلاد العذراوي 

الميلادي العذراوي هو معجزة وآية كما قال إشعياء النبي «وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آية»(7:14). ولأن كُتّاب الأناجيل كانوا مؤرّخين وشهود عيان وفي نفس الوقت لاهوتيّين، فتسجيلهم لحدث الميلاد العذراوي هو تسجيل لعمل عظيم وفوق طبيعي. وفي نفس الوقت هو آية تُشير إلى حقيقة روحيّة، فالمَسِيح هو كلمة الله الأزلي الذي دخل إلى عالمنا بطريقة عجيبة وفريدة. ولهذا الميلاد العذراوي أهميّة خاصة، أذكر منها الآتي:

  1. أظهر الميلاد العذراوي أن الإنسانيّة لا يمكن أن تنتج مخلصًا قدوسًا، ولهذا فلا يمكن أن تخلّص البشريّة نفسها بنفسها. إن الميلاد العذراوي هو علامة على دينونة الله للطبيعة البشريّة. ولأن البشريّة تحتاج إلى مخلّص ولأنها لا يمكن أن تأتي به من داخلها، لهذا كان لا بُدّ أن يأتي الفادي من الخارج. إن الطبيعة البشريّة الخاطئة لا تمتلك القدرة على إفراز شخص قدوس وبار كيَسُوع المَسِيح. وحقيقة أن الجنس البشري لا يمكن أن ينتج مخلصًا برهنت على سيادة الخطيّة والموت على كل الجنس البشري. لقد ضمن الميلاد العذراوي خلو المَسِيح من الطبيعة الخاطئة والساقطة ومن الخطيّة ونتائجها المريرة، لأنه رأس جديد، آدم الأخير الذي يصير لنا من خلال بره حياة. لذلك يقول الملاك للعذراء مريم «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أيضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لُوقا 1: 35) (أنظر أيضًا: كورنثوس الثّانيَة 5: 21؛ بُطرُس الأُولى 2: 22–24؛ عبرانيّين 4: 15، 7: 26؛ رُوميَة 5: 18-19).
  2. الميلاد العذراوي يُؤكّد على تجسّد الابن الأزلي، ولأن الميلاد العذراوي آية ومعجزة فوق طبيعية فهي تبرهن على أن المولود شخص غير عادي. إنه كلمة الله، الابن الأزلي الذي ارتضى أن يأتي لفداءنا وخلاصنا.
  3. الإيمان بالميلاد العذراوي مهم لأن الكتاب المقدّس أخبرنا به، ولأن الكتاب المقدّس لا يُخطئ إذ هو كلمة الله المعصومة فإن ما أخبرنا به هو حق كامل. لهذا لا يمكننا أن ننكر الميلاد العذراوي لأن نفس الكتاب الذي تحدّث عن الميلاد العذراوي تحدّث أيضًا عن الصليب والقيامة.
  4. إن ميلاد يَسُوع من عذراء يشير -من البداية- إلى إرساليته لفداء الإنسان. قال الملاك لمريم «فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوع. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متّى 1: 21). وكما ذكرت لو كان المَسِيح قد أتى من رجل لكان قد وُلد تحت الخطيّة وحُكم الموت كأي مولود من آدم، لكن يَسُوع المخلّص لشعبه من خطاياهم لا بُدّ وأن يأتي بطريقة تجعله ليس تحت هذا الحُكم، وتجعل منه رأسًا جديدًا لشعب جديد. فالمَسِيح ليس امتداد للقديم وليس من نتاجه. إنه آدم الأخير الذي من خلاله يدخل الله التاريخ البشري.
  5. ويبرهن الميلاد العذراوي على مصداقيّة النبؤات. يقول البشير متّى «وَهذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ «هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» الذي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا» (متّى 1: 22–23، انظر إشعياء 7: 14). فالإيمان بالميلاد العذراوي يبرهن على إيماننا نحن في قدرة وعظمة الله «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ» (لُوقا 1: 37).
  6. والميلاد العذراوي يُؤكّد طبيعة المَسِيح وصفاته فوق الطبيعية التي نراها في الأناجيل. إنه المَسِيح القدوس الذي يُشبع الجموع، ويُقيم الموتي، ويشفي المرضى، ويُخرج الشياطين ... فالميلاد العذراوي هو الإجابة على كون المَسِيح قدوس وبلا خطيّة «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أيضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لُوقا 1: 35).
  7. 7) إن الميلاد العذراوي يُؤكّد أن الخلاص هو بنعمة الله فقط دون تدخّل بشر؛ ففي نعمة الخلاص، الله هو المبادر، والعذراء مريم هي المستقبله «فَقَالَتْ مَرْيَمُ «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لُوقا 1: 38).
لماذا التجسّد؟ 

إن السؤال الجوهري المتعلّق بالتجسّد هو "لماذا" صار الله إنسانًا؟ إن إجابة هذا السؤال تلخّص لناp> عقيدة التجسّد والميلادي العذراوي بكلمات واضحة ومحدّدة جدًا. فالمَسِيح، كلمة الله الأزلي والمساوي للآب في الجوهر، تجسّد وصار إنسانًا. لهذا فإن هذا السؤال القديم الجديد الذي يمتد لأكثر من ألفيّ سنة هو سؤال مهم جدًا لفهم الإيمان المَسِيحي ولمعرفة حقيقة شخص يَسُوع المَسِيح. إنه سؤال يلخّص لنا "قلب الإنجيل" الأخبار السارة. هل فعلًا كان هناك حتميّة لتجسّد "ابن الله" الكلمة الأزلي؟ وما هو المنطق من وراء التجسّد؟ وهل يمكننا نحن البشر أن نعي وندرك هذا السر العظيم؟

  1. 1) التجسد ضروري بل وحتمي لخلاص الإنسان. أن أهميّة التجسّد لا يمكن تجاهلها لأن التجسّد مرتبط بالخلاص. فالمشكلة الأساسية هي انفصال الإنسان عن الله بسبب الخطيّة. هذا بالاضافة إلى سمو الله فوق إدراك الإنسان. فإذا أراد الله أن يُعرّف نفسه فلا بُدّ وأن يأخذ زمام المبادرة حتى يستطيع الإنسان أن يعرفه. لكن كما ذُكر سابقًا، فالإنسان منفصل عن الله روحيًا، والإنسان لا يستطيع بمجهوده أن يخلّص نفسه من هذه الخطيّة، ولهذا لا يستطيع أن يرتقي ليتقرّب لله. والسؤال هو كيف يمكن للإنسان أن يقيم شركة مع الله؟ هذا الاحتياج هو الدافع الأساسي وراء التجسّد، فالله القدوس من خلال تجسّده ودخوله إلى عالم الإنسان أمكنه أن يتمّم خلاصه وأن يصالحه لنفسه في المَسِيح يَسُوع.
  2. 2) المَسِيح الابن تجسّد ليأتي بأبناء كثيرين إلى المجد - لم يأتِ المَسِيح ليشاركنا طبيعتنا ويكون نائبًا عنا فحسب، بل جاء لكي يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد. فالإنسان الساقط يحتاج إلى قائد يأتي ليخرجه من العبوديّة إلى الحريّة ومن الموت إلى الحياة. هذا الخروج الجديد يتم فقط من خلال الألم، والألم يتطلب التجسّد وإنسانًا بلا خطيّة. يليق بالمَسِيح الذي من أجله الكل وبه الكل أن يأخذ جسد بشريتنا ويتألم من أجلنا، فبدون التجسّد والألم لن يخلص الإنسان ولن يعود للشركة مع الله. فمن خلال المَسِيح الذي دفع الثمن واختبر الألم والموت وصار الذبيحة الكاملة واللائقة، يتم خلاص الإنسان.
  3. 3) صار الكلمة جسدًا ليبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت - فالمَسِيح المتجسّد انتصر على كل ما استولى على الإنسان ليحرّره ويفك قيوده. انتصر على كل ما يعيق الإنسان عن العودة إلى الشركة مع الله وإلى القصد الأصلي الذي خلقه الرب له. فالشيطان الذي استولى على البشر، وجعل الإنسان عبدًا له وعبدًا للخطيّة، والموت الذي ساد على كل الجنس البشري تعامل معه يَسُوع بالجسد، فبالموت أباد الموت، وبالموت هزم إبليس وأباده، وبالموت والقيامة حرّر الإنسان وخلّصه. لم يكن الموت جزءًا من خطة الله عندما خلق الإنسان. إن أول شيء عمله الله عندما خلق الإنسان أنه بارك الإنسان وأعطاه سلطانًا وسيادة، لكن بسبب الخطيّة والعصيان دخل بل ساد الموت على البشرية فالموت هو أجرة ونتيجة وعقاب العصيان لوصايا الله (رُوميَة 6: 26). مع الموت دخل الخوف، الخوف من الموت والخوف من المستقبل والخوف حتى من الله. لكن هل من أمل وهل من حل لمشكلة الإنسان؟ بكل تأكيد، فالله في محبته أرسل ابنه الوحيد ليتعامل مع مشكلة الإنسان الاساسيّة ويخلصه من الموت ومن الشيطان. لكن لكي يتم هذا كان حتمًا أن يشاركنا المَسِيح في طبيعتنا البشريّة، يكون إنسان كامل مثلنا لكن بلاخطيّة. فالخلاص يكون بسفك الدم لأن اجرة الخطيّة موت، وبالنصرة على الشيطان وبالقيامة من الأموات حيث النصرة على الموت.
  4. 4) بالتجسّد أصبح لنا رئيسَ كهنة رحيمًا وأمينًا - فقد اشترك يَسُوع المَسِيح معهم في الدم واللحم لكن ماذا يعني "في كل شيء؟" المقصود هنا أن المَسِيح صار إنسانًا حقًا، وبالأخص حالة الاتضاع والألم والموت (2: 18)، وفي نفس الوقت تشير إلى أن المَسِيح شارك الإنسانيّة في كل الخبرة الإنسانيّة، بلا خطيّة. فقد جاع وتعب وعطش وأُهين ورُفض وقيل عنه كلام كذب، تألم وعُيّر، جُرب في كل شيء مثلنا لكن بلا خطيّة، كما ذاق كل انوا ع الألم النفسي والجسدي الّتي يعانيها البشر. لقد صار إنسان مثلنا لكي يكون قادرًا أن يعيننا في ضعفاتنا ويسدد احتياجاتنا كرئيس كهنة أمين ورحيم.
  5. التجسّد حتمي ليكون لنا مثال بحياته وبقيامته - ما أعظم حياة يَسُوع المَسِيح! فمع أنه المعلم والسيد إلا أنه "قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا" (يُوحنّا 13: 4-5). لقد ترك لنا يَسُوع مثالًا للتواضع ولمعنى الخدمة الحقيقيّة. إن المَسِيح، وإن يكون مثالًا لنا في المحبة والطهارة والكمالات الاخلاقيّة، إلا أنه، بنوع خاص، مثال لنا في الاتضاع والتضحيّة.
  6. التجسّد حتمي ليُؤكّد قرب الله من الإنسان - إن الله ليس ببعيد عنا، في التجسّد رأينا الله "عمانوئيل" الذي هو معنا. الله الذي هو بالنسبة لليهود "محتجب" (إشعياء 45: 15) وبالنسبة للأمم كان "مجهولًا" (أعمال الرسل 17: 23). لقد أصبح الله بالتجسّد قريبًا منا، لهذا يقول الرّسُول يُوحنّا "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآب، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (1: 14).
ما اعظم حب يسوع، هذا الحب الذي ظهر في تنازله وبذله لذاته حتى يكون لنا نحن الخطاة من خلال الايمان باسمه حياة ابدية. اشجعك عزيزي ان تصلي وتطلب من الرب يسوع ان يفتح قلبك لتقبل محبته وعطية الحياة الابدية

الفصل الخامس

صلب وموت المَسِيح
«هُوَذَا حَمَلُ الله!»
مركزيّة موت المَسِيح 

لا يوجد حدث في الزمن أو الأزل يتجاوز في الأهميّة موت المَسِيح على الصليب؛ فأعمال الرب المهمّة الأخرى؛ مثل خلق العالم، وتجسّد المَسِيح، وقيامته، ومجيئه الثاني، وخلق سماوات جديدة وأرض جديدة، كلها تصبح بلا معنى لو لم يمت المَسِيح. فصليب المسيح هو أعظم المواضيع وأمجدها. هنا ندخل إلى قدس أقداس الإيمان المَسِيحي حيث يُرش الدم الكريم المعروف سابقًا قبل تأسيس العالم ليطهّر ضمائرنا وقلوبنا. لهذا كم نحتاج ونحن نقترب إلى الصليب والمصلوب أن نخلع أحذيتنا، كما قال الله لمُوسَى، لأن الموضع الذي نقف عليه أرض مقدّسة، فبينما تُعطي ديانات العالم اهتمامًا لتعاليم مؤسّسيها (وهكذا ننظر لتعاليم رب المجد يَسُوع)، إلا أن الإيمان المَسِيحي يُعطي كل الاهتمام للصليب ولشخص المصلوب يَسُوع المَسِيح، الذي قدّم نفسه ذبيحةً لأجل إتمام فدائنا بأن أطاع حتى الموت؛ موت الصليب. لهذا يقول الرّسُول بُولُس للمؤمنين في كنيسة كورنثوس «أَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أن أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوع المَسِيح وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا» (كورنثوس الأُولى 2: 2). فالصليب هو فخر المَسِيحيّة ومركزها، بل هو الخيط القرمزي الذي يربط نسيج الكتاب المقدّس كلّه من التكوين إلى الرؤيا. لذلك ليس من الغرابة أن يكون الصليب أكثر الحقائق التي تُهاجَم من قِبل غير المؤمنين، وهو الأكثر إنكارًا للحدوث عند المسلمين. إن صلب وموت المَسِيح هو قلب الإيمان المَسِيحي ولهذا أقول إن المَسِيحيّة بدون صليب هي جُثّة ليس فيها حياة. وكلمة صليب تُعادل في مضمونها إنجيل الخلاص، أي أن المَسِيح يَسُوع مات من أجل خطايانا وقام من أجل تبريرنا (رُومية ٤: ٢٥). لهذا السبب يستحوذ الأسبوع الأخير من حياة رب المجد يَسُوع على حوالي 40% من مادّة الأناجيل (33% من نسبة إنجيل متّى، 37% من نسبة إنجيل مرقُس، 25% من نسبة إنجيل لُوقا، 42% من نسبة إنجيل يُوحنّا خُصّصت للأسبوع الأخير؛ أسبوع الآلام والصلب والموت). بالإضافة إلى ذلك تحتوي باقي أسفار العهد الجديد على أكثر من 175 آية تتحدّث مباشرة عن موت يَسُوع المَسِيح.

يُمثّل موت يَسُوع المَسِيح قمّة الاتضاع إذ «أَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (فيلبي 2: 7)، فيَسُوع المَسِيح الذي هو «الحياة» (يُوحنّا 14: 6) والخالق ورب الحياة، ومعطي الحياة، وضع نفسه وأطاع حتى الموت. يَسُوع المَسِيح الذي لم يفعل خطيّة، حمل عقاب الخطيّة وأجرتها. السؤال الذي يتعيّن أن نجيب عليه في تناولنا لصليب وموت المَسِيح هو «هل كان حتميًا وضروريًا أن يتألّم يَسُوع المَسِيح ويموت على الصليب؟» وما الذي حقّقه يَسُوع للإنسان الخاطئ بهذا الموت؟ إن السبب الأساسي لمجيء يَسُوع المَسِيح وتجسّده هو الموت لأجل الخطاة. هذه الحقيقة لا يمكن أن نفهمها دون إدراك حقيقي لسُقوط الإنسان ولطبيعة الله وطبيعة صفاته.

سُقوط الإنسان 

لقد تركت قِصّة سُقوط الإنسان وطرْدِه من جَنَّة عَدْن، وما نتج عن ذلِكَ من فساد، أثرَها على علاقة الإنسان بالله، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وامتد أثرُها السلبيُّ أيضًا إلى الخَلِيقة كلها، الأمر الذي يُعد كارِثة بكُلِّ المقاييس. فالله خلق الإنسان على «صورته وشبهه»، ولهذا امتاز الإنسان عن كُلّ الخلائق. إذ كان يمتلك كُلَّ الإمكانيّات التي تؤهِّلُه ليعيش في سلام دائِم مع الله. إلا أن الإنسان تعدى وصية الله وكسرها وسقط في الخطية. لقد استطاع ألشيطان أن يلوّث فكر حواء وأن يُشكّكها في صلاح الله. ولهذا انهارت حصانتها ونظرت إلى الشّجرة ورأت أَنَّها «طيبةٌ للأكلِ ومتعةٌ للعيونِ وَأَنَّ الشّجَرَةَ شَهِيّة لِلنَّظَرِ». دفعت هذه الثّلاثيّة حواء إلى الأكل من الشّجرة. ونحن نرى إشارة واضحة إلى هذا الأمر في كلام الرّسُول يُوحنّا الحبيب «لأَنَّ كُلّ مَا فِي العَالَم شَهْوَةَ الجَسَدِ، وَشَهْوَةَ العُيُونِ، وَتَعَظُّمَ المَعِيشَةِ، ليس مِنَ الآب بَلْ مِنَ العَالَم» (يُوحنّا الأُولى 2: 16). ليست الخطيّة هي التجربة نفسها، وليست هي الشّهوة الطّبيعيّة لأمر ما، ولكنها النّظرة الممزوجة بالشّهوة لأمر ممنوع (يَعْقُوب 1: 13 -15). فالخطيّة مرض مُعْدٍ، لَوَّثَ عقل وقلب وإرادة حواء، وها هو يلوث قلب آدم أيضًا فيأخذ ويأكل. يصف الفعلان «أخذ»، و «أكل»،

طبيعة الخطيّة 

  • • الخطيّة هي عدم إصابة الهدف. لقد أخطأنا كبشر في عدم إصابة الهدف الذي من أجله خلقنا الله وأوجدنا؛ مجده «وَلِمَجْدِي خَلَقْتُهُ وَجَبَلْتُهُ وَصَنَعْتُهُ» (إشعياء 43: 7)، ولهذا يصف الرّسُول بُولُس خطيّة الأمم بأنهم لما عرفوا الله، من خلال الإعلان العام في الطبيعة، «لَمْ يُمَجِّدُوهُ أو يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الغَبِيُّ» (رُوميَة 1: 21). يُؤكّد الكتاب المقدّس أن الجميع أخطأوا الهدف فيقول «إِذِ الجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ الله» (رُوميَة 3: 23؛ مزمور 14: 3).
  • • الخطيّة شر، شيء فاسد، وبالأخص عندما تصف حالة الإنسان وسلوكيّاته الأخلاقيّة. «فَأَنَا لَمْ أُخْطِئْ إِلَيْكَ. وَأَمَّا أَنْتَ فَإِنَّكَ تَفْعَلُ بِي شَرًّا بِمُحَارَبَتِي» (قضاة 11: 27).
  • • الخطيّة إثم وذنب. «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إلى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء 53: 6).

  • • الخطيّة هي الفجور والتعدّي. يقول الرّسُول يُوحنّا «كُلُّ إِثْمٍ هو خَطِيّة» (يُوحنّا الأُولى 5: 17)، ويقول أيضًا واصفًا من يفعل الخطيّة «كُلُّ مَنْ يَفْعَلُ الخَطِيّة يَفْعَلُ التَّعَدِّيَ أَيْضًا. وَالخَطِيّة هي التَّعَدِّي» (يُوحنّا الأُولى 3: 4). الخطيّة تمرد مقصود ضد الله والناس «وَهذِهِ هي الدَّيْنُونَةُ: أن النُّورَ قَدْ جَاءَ إلى العَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأن أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً» (يُوحنّا 3: 19).

نتائج الخطيّة؟ 

لماذا يحتاج الإنسان للكفارة؟  

بسبب الخطيّة تضررت علاقة آدم وحواء مع الله جدًا. هذه العلاقة التي سادها الثقة والطاعة والشركة والبركة والمَحبّة، أصبحت الآن مكسورة وسادها الخوف والهروب والعداء. لم يكن الله هو الذي تغيّر بل الإنسان الذي غيّرته الخطيّة، وبالتالي غيّرت الخطيّة علاقته مع الله الخالق ومع نفسه ومع الإنسان أخيه. يمكن أن نلخّص نتائج الخطيّة في الآتي:
  1. عدم رضى الله ⇑.
    لا يُساوم الله على الخطيّة ولا يتغاضى عنها. إنها قداسته التي على أساسها يرفض كل فعل خاطئ. فعندما نفعل الخطيّة بإرادتنا فنحن ننقل أنفسنا إلى منطقة عدم رضى الله، وهنا نصبح أعداء له. فبتمردنا ضد الله نكسر، نحن البشر وليس الله، هذه العلاقة. إن خطيّة الإنسان وتمرده ضد الله تغضب الله. نعم الله يغضب، والغضب لديه ليس شعورًا انفعاليًا بل أمر نابع من قداسته وبره. تحدّث العهد الجديد أيضًا عن غضب الله. فمع أن الله لا يكره الخطاة ولا يعاديهم إلا أن هذا لا يمنع الله القدوس من أن يغضب ويعلن سخطه على فُجور الناس وإثمهم. فغضب الله يشيران إلى ردّة فعله تجاه الخطيّة، هذا الغضب الذي يتبعه فعل الدينونة «لأَنَّ غَضَبَ الله مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الّذينَ يَحْجِزُونَ الحَقَّ بِالإِثْمِ» (رُوميَة 1: 18)، «تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَبًا فِي يَوْمِ الغَضَبِ» (2: 5). إن قداسة الله وبرَّه يجعلانه يرفض الخطيّة ويدينها ويغضب عليها.
  2. فساد كامل -
    لقد وصل الفساد إلى كل جزء في الإنسان وإلى كل إنسان مولود من آدم، لهذا فالإنسان الطبيعي الجسدي ليس عنده ما يفتخر به أو ما يجعله يستحق إحسان الله. «وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أمواتا بِالذُّنُوبِ وَالخَطَايَا، الّتي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلًا حَسَبَ دَهْرِ هذَا العَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الهَوَاءِ، الرُّوحِ الذي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ المَعْصِيّة، الّذينَ نَحْنُ أيضًا جَمِيعًا تَصَرَّفْنَا قَبْلًا بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الغَضَبِ كَالبَاقِينَ أَيْضًا» (أفسس 2: 1-3).
  3. ؛ غرباء بلا رجاء وبلا إله
    «أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذلِكَ الوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيّين عَنْ رَعَوِيّة إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ المَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ، وَبِلاَ إِلهٍ فِي العَالَمِ» (أفسس 2: 12). «وَأَنْتُمُ الّذينَ كُنْتُمْ قَبْلًا أَجْنَبِيّين وَأَعْدَاءً فِي الفِكْرِ، فِي الأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ الآنَ» (كولوسي 1: 21).
  4. جهالة وعمى رُوحي
    «وَلكِنَّ الإنسان الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ الله لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ..». (كورنثوس الأُولى 2: 14). «الّذينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ المُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إنجيل مَجْدِ المَسِيح» (كورنثوس الثّانيَة 4: 4).
  5. مُذنب وواقع تحت الدينونة
    «أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذلِكَ الوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيّين عَنْ رَعَوِيّة إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ المَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ، وَبِلاَ إِلهٍ فِي العَالَمِ» (أفسُس 2: 12). «وَلَيْسَ كَمَا بِوَاحِدٍ قَدْ أَخْطَأَ هكَذَا العَطِيّة. لأن الحُكْمَ مِنْ وَاحِدٍ لِلدَّيْنُونَةِ...فإِذًا كَمَا بِخَطِيّة وَاحِدَةٍ صَارَ الحُكْمُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ» (رُوميَة 5: 16، 18).
  6. عبد للخطيّة والموت وإبليس
    «مَنْ يَفْعَلُ الخَطِيّة فَهُوَ مِنْ إِبْلِيسَ، لأن إِبْلِيسَ مِنَ البَدْءِ يُخْطِئُ. لأَجْلِ هذَا أُظْهِرَ ابْنُ الله لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ» (يُوحنّا الأُولى 3: 8). «وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الّذينَ¬ خَوْفًا مِنَ المَوْتِ¬ كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ العُبُودِيّة» (العبرانيّين 2: 15). «فَيَسْتَفِيقُوا مِنْ فَخِّ إِبْلِيسَ إِذْ قَدِ اقْتَنَصَهُمْ لإِرَادَتِهِ» (2تيموثاوس 2: 26).
  7. الدينونة-الهلاك الجسدي والروحي والأبدي
    «لأَنَّ الرَّبَّ يَعْلَمُ طَرِيقَ الآبرَارِ، أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَتَهْلِكُ» (مزمور 1: 6). «فَقُلْتُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لأَنَّكُمْ أن لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هو تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ» (يُوحنّا 8: 24). «ثُمَّ يَقُولُ أيضًا لِلَّذِينَ عَنِ اليَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إلى النَّارِ الأبديّة المُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ» (متّى 25: 41).

الخطيّة الأصليّة 

الجميع، بدون استثناء، خطاة، أي أن كل إنسان يُولد في الطبيعة الخاطئة، وهذه الطبيعة الخاطئة هي التي تدفعه للخطيّة والتمرُّد ضد الله. يقول الكتاب المقدّس «ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد» (مزمور 14؛ رُوميَة 3). هذا الفساد الكوني الذي أصاب كل الجنس البشري يُشار إليه بالخطيّة الأصليّة، ونقصد بها نتائج وآثار خطيّة آدم على حالنا وطبيعتنا نحن الّذين أتينا من آدم. إن النص الكتابي الذي يصوّر لنا تأثير خطيّة آدم على جنسنا البشري كله يقول فيه الرّسُول بُولُس «منْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإنسان وَاحِدٍ دَخَلَتِ الخَطِيّة إلى العَالَمِ، وَبِالخَطِيّة المَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ المَوْتُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الجَمِيعُ. فَإِنَّهُ حَتَّى النَّامُوسِ كَانَتِ الخَطِيّة فِي العَالَمِ. عَلَى أن الخَطِيّة لاَ تُحْسَبُ أن لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ. لكِنْ قَدْ مَلَكَ المَوْتُ مِنْ آدم إلى مُوسَى، وَذلِكَ عَلَى الّذينَ لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ، الذي هو مِثَالُ الآتِي. وَلكِنْ ليس كَالخَطِيّة هكَذَا أيضًا الهِبَةُ. لأَنَّهُ أن كَانَ بِخَطِيّة وَاحِدٍ مَاتَ الكَثِيرُونَ، فَبِالأُولى كَثِيرًا نِعْمَةُ الله، وَالعَطِيّة بِالنِّعْمَةِ التي بِالإنسان الوَاحِدِ يَسُوع المَسِيح، قَدِ ازْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ! وَلَيْسَ كَمَا بِوَاحِدٍ قَدْ أَخْطَأَ هكَذَا العَطِيّة. لأن الحُكْمَ مِنْ وَاحِدٍ لِلدَّيْنُونَةِ، وَأَمَّا الهِبَةُ فَمِنْ جَرَّى خَطَايَا كَثِيرَةٍ لِلتَّبْرِيرِ. لأَنَّهُ أن كَانَ بِخَطِيّة الوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ المَوْتُ بِالوَاحِدِ، فَبِالأُولى كَثِيرًا الّذينَ يَنَالُونَ فَيْضَ النِّعْمَةِ وَعَطِيّة البِرِّ، سَيَمْلِكُونَ فِي الحَيَاةِ بِالوَاحِدِ يَسُوع المَسِيح! فَإِذًا كَمَا بِخَطِيّة وَاحِدَةٍ صَارَ الحُكْمُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ، هكَذَا بِبِرّ وَاحِدٍ صَارَتِ الهِبَةُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ، لِتَبْرِيرِ الحَيَاةِ. لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيّة الإنسان الوَاحِدِ جُعِلَ الكَثِيرُونَ خُطَاةً، هكَذَا أيضًا بِإِطَاعَةِ الوَاحِدِ سَيُجْعَلُ الكَثِيرُونَ أَبْرَارًا (رُوميَة 5: 12- 19).

خلق الله أدم في حالة البراءة، وبعد سُقوطه كممثّل أو كنائب عن البشريّة سقطت معه كل البشريّة، وأصبح كل إنسان يُولد بالخطيّة الأصليّة وتحت الدينونة الإلهيّة ووراث للطبيعة الفاسدة. فالإنسان أثيم وفاسد منذ مولده، وخالٍ من أي فضائل أو أخلاقيّات. ولهذا أصبح الإنسان حرًا تمامًا في اختيار الشر فقط وعاجزًا تماما ً عن اختيار الخير أو الصلاح. فالإنسان بسبب الخطيّة الأصليّة أصبح ميتًا روحيًا («الفساد الكُلّي» لا مُجرّد مريض ولهذا فهو لا يستطيع أن يفعل أي شيء لخلاص نفسه ولا أن يساعد الروح القدس في إتمام خلاصه. بالمعصيّة تشوهت في الإنسان الصورة الإلهيّة التي خُلق عليها وفسدت طبيعته حتى صار ميتًا روحيًا ومحكوم عليه بالموت الجسدي والأبدي. لقد حوّلت الخطيّة الإنسان إلى كائن آخر، كائن لا يميل إلى الخير بل عاجز عن فعله، وقابل للموت، وهارب من وجه الرب. هذه الحالة انتقلت إلى كل نسل آدم عن طريق الاتحاد النيابي بين آدم ونسله (رُوميَة 5: 12–21). فنتيجة السُقوط حلّ على نسل آدم نفس النتائج التي حلّت على آدم عندما أخطأ، فكل مولود من آدم أصبح فاسد بالطبيعة وفي حالة الدينونة على شبه آدم. أصبح الإنسان فاسد الطبيعة وفاسد بأعماله وأفعاله وأفكاره «كلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هو شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (التّكوين 6: 5). يُؤكّد استخدام كَلِمة «كُلّ» مرّتيْن في هذه الآية أن مرض الإنسان ليس أمرًا عارضًا، لكنه مرض مزمن لم يترك جُزْءًا في الإنسان إلا ودَمَّرَهُ. فكُلّ تصوُّر قلب الإنسان هو شرير كُلّ يوم. إنها صُورَة للفساد الكامل للإنسان، وحيث إن القلب من الدّاخل قد فَسَدَ، فمن هذا القلب يخرج كُلّ فكر وتصوُّر شرير. ولقد أكَّدَ الرب يَسُوع هذه الحقيقة عندما قَالَ «لأَنْ مِنَ القَلْب تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ» (متّى 15: 19) فالخطيّة الأصليّة يمكن تعريفها بأنها «الحالة الخاطئة والفاسدة التي يُولد فيها الإنسان» حالة الفساد الكلي هذه لم تنفع معها أوراق الّتين التي خاطها الإنسان الأوّل في الجنة ليُغطي عورته، فصنع الله له بالنعمة لباسًا خاصًا من تدبيره «أقمصة من جلد» وألبسهما (التّكوين 3: 20). ومن هنا يبدأ الخيط القرمزي الذي يزداد وضوحًا تدريجيًا من خلال الإعلان الإلهي عن الكفارة.

لكن لماذا كان الموت أجرة الخطيّة؟ 

ألا يكفي أن تكون أجرة الخطيّة طردًا من الجنة أو أي عقاب آخر؟ لماذا الموت؟ ولماذا لا يغفر الله لآدم كما نغفر نحن للآخرين؟ للإجابة على هذا السؤال نقول إذا تصوّر أحد ما أن الله يمكن أن يغفر لنا ببساطة، كما نغفر نحن للآخرين فإنه لم يفكّر بعد مليًا في جديّة الخطيّة ... لم يفكر بعد مليًا في جسامة ثقل الخطيّة». يقول الرّسُول بُولُس واصفًا الخطيّة «الخَطِيّة خَاطِئَةً جِدًّا» (رُوميَة 7: 13). إن مشكلة الخطيّة هي أنها موجّهة ضد الله أولًا وأخيرًا، لهذا قال داود النبي وهو يعترف بخطيته أمام الرب «إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ» (مزمور 51: 4). إن كل ما نفعله أو نفكّر فيه من خطايا هو موجّه ضد الله نفسه، فعندما نغضب ونكره فنحن نكسر وصيّة الله التي تأمرنا أن نحب الآخرين، وعندما نشتهي فنحن نكسر وصيّة «لا تشتهي»، وعندما نسرق نكسر وصيّة «لا تسرق». فكما أن كل كسر لقانون الدولة هو تعدّي على البلد وسيادتها، هكذا عندما نُخطئ نحن نتعدى وصايا الله ونكسرها. إن خطيّة الإنسان هي خطيّة العبد ضد الملك، بل ملك الملوك، خطيّة المخلوق ضد الخالق، خطيّة المحدود ضد غير المحدود، ولهذا فإن أجرة الخطيّة موت. وكلما كانت الخطيّة موجّهة إلى من هو أسمى وأعظم كلما كان العقاب أشد؛ فقد يُخطئ الإنسان إلى شخص في نفس مستواه، لكن عندما يُخطئ في حق رئيسه في العمل، يكون العقاب أشد، وعندما يخطئ في حق قاضٍ أو حاكم يكون العقاب أشد، لكن عندما تكون الخطيّة موجّهة إلى الله الملك نفسه، الذي لا نهاية لعظمته ومجده وبهاءه وقداسته وعدله، يكون العقاب في درجته القصوى، يكون العقاب موتًا « مَوْتًا تَمُوتُ» (التّكوين 2: 17). ومع أن عبارة «موتًا تموت» تُشِيرُ مبدئيًا إلى المَوْت الجسديّ، إلا أن المَوْت الرّوحيّ أي الانفصال عن الله، والموت الأبديّ، مُتَضَمَّن فيها أَيْضًا. فقط من خلال كفارة المَسِيح وحدها يُرفَع هذا العقاب عن الإنسان الخاطئ (حزقيال 3: 18، 33: 8، 14).

صفات الله 

مَحبّة الله.
لأن الله محب فهو يريد أن يغفر ويُحرّر الإنسان من عقاب خطاياه. هذا الحب هو الدافع لمجيء المَسِيح ولموته الكفاري. لهذا يقول الكتاب القدس «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ الله العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأبديّة. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ الله ابْنَهُ إلى العَالَمِ لِيَدِينَ العَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ العَالَمُ» (يوحنا 3: 16–17). من المهم أن ندرك حقيقة أساسيّة ونحن نتحدّث عن مَحبّة الله؛ أن الله غير مُرغم على تخليص أو إنقاذ أي خاطئ، فالملائكة التي أخطأت لم يشفق عليها الله ولم يدبّر لها خلاصًا، لهذا يقول الرّسُول بُطرُس لأَنَّهُ أن كَانَ الله لَمْ يُشْفِقْ عَلَى مَلاَئِكَةٍ قَدْ أَخْطَأُوا، بَلْ فِي سَلاَسِلِ الظَّلاَمِ طَرَحَهُمْ فِي جَهَنَّمَ، وَسَلَّمَهُمْ مَحْرُوسِينَ لِلْقَضَاءِ» (بُطرُس الثّانيَة ٢). كان من الممكن أن يفعل الله معنا نفس الشيء من منطلق عدله الكامل، إلا أنه بدافع الحب للإنسان قرّر أن يفدي الإنسان الهالك ويخلّصه. كان من الضروري أن يموت المَسِيح لتحقيق الفداء والمصالحة. لقد أكّد يَسُوع المَسِيح هذه الحقيقة في كلامه مع تلميذي عمواس عندما قال لهم «أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أن المَسِيح يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إلى مَجْدِهِ؟» (لُوقا 24: 26).

عدالة الله.
إن الله المحب هو في نفس الوقت إله عادل، هذا العدل يتطلّب أن ينفّذ الله قضاءه على الإنسان الخاطئ. ولكي يحقّق الله عدالته فعليه أن يجد طريقة ينفّذ بها هذا العدل. لا بُدّ أن يوجد البديل الذي يحمل عقاب خطايانا وهذا البديل هو شخص يَسُوع المَسِيح، الابن الأزلي المتجسّد الذي صنع الكفارة. يقول الرّسُول بُولُس إن موت المَسِيح ككفارة عن خطايا هو إظهار لبر الله «الّذي قَدَّمَهُ الله كَفَّارَةً بِالإيمان بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ الله. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هو مِنَ الإيمان بِيَسُوع» (رُوميَة 3: 25-26). لهذا يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيّين إنه فقط بدم «حمل الله» يكفر عن خطايانا «لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أن دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا» (10: 4)، ويقول أيضًا «فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أن يَتَأَلَّمَ مِرَارًا كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ العَالَمِ، وَلكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مرّة عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الخَطِيّة بِذَبِيحَةِ نَفْسِه» (9: 25).

الكفّارة 

وردت كلمة كفارة أكثر من مئة مرّة في العهد القديم (ومرّة واحدة في العهد الجديد) وتعني يُغطي أو يمحو. والمعنى اللُغوي: كَفَرَ الشَّيْء: أي سَتَرَهُ، غَطَّاهُ. لقد وردت كلمة كفّارة مرّة واحدة في العهد الجديد وتُرجمت مصالحة: يقول الرسول بولس أيضًا «وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ الله بِدُونِ النَّامُوسِ، مَشْهُودًا لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ، بِرُّ الله بِالإيمان بِيَسُوع المَسِيح، إلى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الّذينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ الله، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالفِدَاءِ الذي بِيَسُوع المَسِيح، الذي قَدَّمَهُ الله كَفَّارَةً بِالإيمان بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ الله. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هو مِنَ الإيمان بِيَسُوع. فَأَيْنَ الافْتِخَارُ؟ قَدِ انْتَفَى. بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ الأَعْمَالِ؟ كَّلاَّ. بَلْ بِنَامُوسِ الإيمان. إذا نَحْسِبُ أن الإنسان يَتَبَرَّرُ بِالإيمان بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ. أَمِ الله لِلْيَهُود فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا؟ بَلَى، لِلأُمَمِ أيضًا لأن الله وَاحِدٌ، هو الذي سَيُبَرِّرُ الخِتَانَ بِالإيمان وَالغُرْلَةَ بِالإيمان. أَفَنُبْطِلُ النَّامُوسَ بِالإيمان؟ حَاشَا! بَلْ نُثَبِّتُ النَّامُوسَ» (رُوميَة 3: 21-31).

مركزيّة موت المَسِيح 

قلنا إن أهميّة موت المَسِيح ومركزيته تظهر في الطريقة التي كُتبت بها الأناجيل إذ خصّصت البشائر أكثر من 40% من مادّتها لسرد أحداث الأسبوع الأخير. والكفارة هي عمل الله نفسه. في العبادات الوثنيّة يقوم الإنسان بالتكفير عن الآلهة، أما في الإيمان المَسِيحي فالله يكفّر عن غضبه بنفسه، إذ أرسل ابنه وحيده ليموت عن خطايانا. لهذا يقول الرّسُول يُوحنّا إن الله «أرسل ابنه» كفارة من أجل خطايانا (يُوحنّا الأُولى 2: 1). لم يكن الإنسان هو صاحب المبادرة الأُولى بل الله هو الذي أخذ الخطوة الأُولى عندما أرسل ابنه الأزلي إلى العالم ليعلن محبته وعدله في آن واحد.

الصليب هو مكان الكفارة.
هذا هو قدس أقداس المَسِيحيّة حيث حمل يَسُوع المَسِيح خطايانا وصار نائبًا عنا إذ «صار خطيّة من أجلنا»، وبموته أوجد لنا خلاصًا وفداءً. يقول النبي إشعياء بروح النبوة «وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إلى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (53: 5–6). وعلى الصليب نطق الرب يَسُوع المَسِيح بأجمل عبارة انتظرتها البشريّة الخاطئة وهي «قد أُكمل» فقد أتمّ يَسُوع الخلاص بموته، وبسفك دمه كفّر عن خطايانا.

المَسِيح مات آخذًا مكان الخطاة وحمل عقاب خطاياهم كبديل عنهم  

إن البدليّة العقابيّة تشمل الفداء والكفارة والمصالحة والنصرة ومثال للأخلاق.

الفداء: 
الفداء هو الثمن الذي يُدفع لتحرير عبد أو إطلاق أسير، والمَسِيح دفع ثمن تحريرنا على الصليب. في العهد القديم كانت الأملاك والحيوانات والأشخاص والأُمة كلها تُفدى بدفع ثمن، فبوعز دفع ثمن لفك واسترداد شيئًا ما كان قد أخذ من عائلة أليمالك (راعوث 3). جاء المَسِيح ليقدّم نفسه فديّة عن كثيرين (مرقُس 10: 45). فلأن حياتنا محكوم عليها بالموت والهلاك احتاجت إلى فداء، فالمَسِيح دفع حياته عوضًا عنا. «الّذي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيّة لأَجْلِ الجَمِيعِ» (1تيموثاوس 2: 6). «لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا الله فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ التي هي للهِ» (1كورنثوس 6: 20).

الكفارة: 
هي رفع الغضب الإلهي واسترضاء العدالة الإلهيّة. فالخطيّة تثير غضب الله القدوس. لا يستطيع أن يقوم الإنسان بأي دور لاسترضاء الله، بل إن الله نفسه، برحمته ونعمته، دبّر ما يرفع غضبه ويكفّر عن خطايا الإنسان. فالله قدّم يَسُوع المَسِيح؛ الابن الوحيد، كقربان للتكفير عن خطايانا. فالله يحبّنا. إنه لا يُحبنا لأن المَسِيح مات لأجلنا، بل إن مَحبّة الله هي الأساس الذي لأجله أرسل ابنه كفارة لأجلنا. فمَحبّة الله هي التي منها تدفّقت الكفارة والفداء. «الّذي قَدَّمَهُ الله كَفَّارَةً بِالإيمان بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ الله» (رُوميَة 3: 25). «فِي هذَا هي المَحبّة: ليس أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا الله، بَلْ أَنَّهُ هو أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (1يُوحنّا 4: 10).

التبرير  
- إن التبرير هو نُطق الله القاضي بحُكم البراءة لصالح لإنسان الخاطئ. هذا التبرير مبني على الإيمان بعمل يَسُوع المَسِيح الكفاري والنيابي عنا، فالإنسان لا يتبّرر بأعمال الناموس بل بالإيمان. «أَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإنجيل المَسِيح، لأَنَّهُ قُوَّةُ الله لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُوديِّ أَوَّلًا ثُمَّ لِلْيُونانيِّ. لأن فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ الله بِإيمان، لإيمان، كَمَا هو مَكْتُوبٌ «أَمَّا البَارُّ فَبِالإيمان يَحْيَا» (رُوميَة 1: 16-17). «وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ الله بِدُونِ النَّامُوسِ، مَشْهُودًا لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ، بِرُّ الله بِالإيمان بِيَسُوع المَسِيح، إلى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الّذينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ الله» (رُوميَة 3: 21–23).

المصالحة  
- لقد كُنّا غرباء ومنفصلين عن الله أما الآن فبموت المَسِيح صار لنا وفاق وشركة مع الله. إن التبرير والمصالحة وجهان لعُملة واحدة، فالتبرير يُشير إلى وقفتنا القانونيّة أمام الله القاضي، أما المصالحة فتشير إلى العلاقة الشخصيّة بين الآب المحب وأبنائه. إنها تشير إلى السلام والتمتّع ببركة الشركة، لهذا فالمصالحة هي نتيجة التبرير (رُوميَة 5: 10). في الماضي انطبق علينا القول «بَلْ آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ» (إشعياء 59: 2)، أما الآن «لأَنَّهُ أن كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ الله بِمَوْتِ ابْنِهِ، فَبِالأُولى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ! وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أيضًا بِالله، بِرَبِّنَا يَسُوع المَسِيح، الذي نِلْنَا بِهِ الآنَ المُصَالَحَةَ» (رُوميَة 5: 10–11).

النصرة  

«الّذي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هذَا، وَهُوَ يُنَجِّي. الذي لَنَا رَجَاءٌ فِيهِ أَنَّهُ سَيُنَجِّي أيضًا فِيمَا بَعْدُ» (2كورنثوس 1: 10).

«إِذْ مَحَا الصَّكَّ الذي عَلَيْنَا فِي الفَرَائِضِ، الذي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا، ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ» (كولوسي 2: 14–15).

«فإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هو أيضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالمَوْتِ ذَاكَ الذي لَهُ سُلْطَانُ المَوْتِ، أي إِبْلِيسَ» (العبرانيّين 2: 14).

براهين صلب المسيح – الجزء الاول 

لا توجد مسيحيّة بدون صليب، فالصليب هو روح وحياة الإيمان المَسِيحي، فكل العقائد المَسِيحيّة الأساسيّة مثل الخلق والثالوث والتجسّد والميلاد العذراوي والقيامة والمعموديّة والعشاء الرباني وحتى خلق سماء جديدة وأرض جديدة تصبح كلها بدون الصليب وموت المَسِيح بلا معنى. فالصليب هو قلب رسالة الإنجيل، بل وفخرها وسر قوتها. لاكثر من 600 سنة (من القرن الأوّل وحتى القرن السادس الميلادي) لم يشك احد سواء من اليَهُود أو الرُومَان أو تلاميذ المَسِيح في حقيقة صلب وموت المَسِيح. فالصليب موجود في رسالة الإنجيل وموجود كل اسبوع في ممارسة الكنيسة الأُولى للعشاء الرباني وموجود في المعموديّة وموجود في قوانيّين الإيمان وموجود في كتابات الآباء وموجود عل جدران البيوت وعلى جدران الكنائس، موجود في كتابات اتباع المَسِيح كما موجود في كتابات اعداء المَسِيح. فالمَسِيحيّة والصليب وجهان لعملة واحدة، لهذا لا يمكن أن توجد المَسِيحيّة بدون الصليب ولا يوجد الصليب بدون المَسِيح.

براهين صلب المسيح وموته 

  1. شهادة الرب يَسُوع المَسِيح
    - سجل البشيران متّى ولُوقا بشارة الملاك للعذراء مريم ويوسف النجار بأن المولود ُيدعى اسمه "يَسُوع/يشوع" لأنه يخلص شعبه من خطاياهم (متّى 1: 21؛ لُوقا 1: 31). أكثر من مرة يؤكد الرب يسوع المسيح نفسه حقيقة صلبه وموته ويتنبأ عن حتمية حدوثها وانه لهذا جاء إلى العالم، نذكر منها الأتي: «مِنْ ذلِكَ الوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوع يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أن يَذْهَبَ إلى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي اليَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ» (متّى 16: 21). «وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أن ابْنَ الإنسان يَنْبَغِي أن يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقُس 8: 31). "لأَنَّ ابْنَ الإنسان أيضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيّة عَنْ كَثِيرِينَ» (مرقُس 10: 45). "كَمَا أن ابْنَ الإنسان لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيّة عَنْ كَثِيرِينَ» (متّى 20: 28).
  2. شهادة الأناجيل الأربعة 
    - يستحوذ الأسبوع الأخير من حياة رب المجد يَسُوع على أكثر من 40% من مادّة الأناجيل (33% من نسبة إنجيل متّى، 37% من نسبة إنجيل مرقُس، 25% من نسبة إنجيل لُوقا، 42% من نسبة إنجيل يُوحنّا خُصّصت للأسبوع الأخير؛ أسبوع الآلام والصلب والموت)، بالإضافة إلى ذلك تحتوي باقي أسفار العهد الجديد على أكثر من 175 آية تتحدّث مباشرة عن موت يَسُوع المَسِيح. سجلت الأناجيل الاربعة تفاصيل دقيقة عن صلب وموت المَسِيح. ذكرت الزمان والمكان والاشخاص من اليهود والرومان، سجلت حالة المسيح كما سجلت لنا حتى رد فعل زودة بيلاطس.
  3. شهادة الفرائض المقدّسة (المعموديّة والعشاء الرباني) 
    - فريضة المعموديّة. ارتبطت المعموديّة بالكنيسة منذ بدايتها إذ تشير إلى الموت والقيامة مع المَسِيح. فمن خلال المعموديّة يعلن الشخص عن إيمانه بالرب يَسُوع المَسِيح، والمعموديّة، في نفس الوقت، تمثل موتنا عن الخطيّة وحياتنا الجديدة في المَسِيح. إذ يعترف الخاطيء بالرب يَسُوع المَسِيح فإنه يموت عن الخطيّة (رُوميَة 6: 11) ويقوم إلى حياة جديدة. فإذا لم يكن المَسِيح يَسُوع قد صُلب حقًا ومات فعلًا تصير المعموديّة بلا معنى ولا قيمة، فهي مؤسّسة أولًا وأخيرًا على هذه الحقيقة التاريخيّة؛ حقيقة موت المَسِيح وقيامته من بين الأموات. فريضة العشاء الرباني. في الليلة الأخيرة، الليلة الّتي أسلم فيها شخص الرب يَسُوع، أسّس لنا هذه الفريضة (متّى 26: 25–28). هذه الفريضة مارسها المؤمنون الأوائل في أول اجتماع لهم بعد أن آمنوا يوم الخمسين "وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ، وَالشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ الخُبْزِ، وَالصَّلَوَاتِ" (أعمال الرسل 2: 42)، ومازالت هذه الفريضة تُمارس في كل الكنائس على اختلاف طوائفها. إن معنى العشاء الرباني أو "كسر الخبز" مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالموت وسفك الدم، فبدون موت المَسِيح وسفك دمه تصبح هذه الفريضة بلا قيمة وبلا معنى. فكما أن الخبز يُكسر ليعطي حياة، مات يَسُوع المَسِيح ليعطي حياة. إن دم المسيح المسفوك هو دم العهد الجديد.
  4. شهادة وتعاليم الرّسُل  
    - إن جوهر تعاليم الرسل هو صلب يَسُوع المَسِيح وموته وقيامته، فقد تأسست كل تعاليم الرسل على هذه الحقائق. لقد عاش تلاميذ الرب يَسُوع يكرزون بهذا، وماتوا كشهداء من أجل الحفاظ على هذا الإيمان والمناداة به. فيما يلي مجرّد عيّنة من تعاليم الرسل عن موت المَسِيح وقيامته: يقول الرسول بطرس "فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ بِاسْمِ يَسُوع المَسِيح النَّاصِرِيِّ، الّذي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ، الّذي أَقَامَهُ الله مِنَ الأموات، بِذَاكَ وَقَفَ هذَا أَمَامَكُمْ صَحِيحًا" (أعمال الرسل 4: 10). ويقول الرسول بولس عن إتضاع المسيح "لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الهَيْئَةِ كَإنسان، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (فيلبي 2: 7-8). "لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ، لَعَلِّي أَبْلُغُ إلى قِيَامَةِ الأموات" (فيلبي 3: 10-11).
  5. شهادة علم الآثار 
    - اكتشف علماء الآثار عشرات الأماكن، من بيوت وأماكن للعبادة في اليَهُوديّة وفي أسيا الصغيري، التي تحتوى على صور ونقوش للصليب وكلها تعود إلى القرن الأوّل والقرن الثاني الميلاديْين. أكّدت كل هذه الاكتشافات تاريخيّة الصليب ومركزيّته في حياة وعبادة جماعة المؤمنين منذ فجر المسيحيّة. كما تحتوي هذه الأماكن على أجران لممارسة المعموديّة وصور للعشاء الرباني. حجر بيلاطس Pilate Stone. في سنة 1961 عثر عالم الآثار أنطونيو فروفا Antonio Frova على كتلة حجريّة تقع خلف المسرح الدائري الرُومَاني في قيصريّة، وكان منقوشًا عليها باللغة اللاتينيّة تحيّة بيلاطس إلى الامبراطور طيباريوس. ويرجع تاريخ هذا الحجر إلى سنة 26–36 ميلاديّة، وتكشف النقوش المرسومة عليه أن بيلاطس كان حاكمًا لليَهُوديّة. يقول النقش

TIBERIEUM [PONT]IUS [PRAEF]ECTUS IDUA[EA]

To Tiberius, Pontius Pilote, Perfect of Judea

ومع أن هذا الاكتشاف الأثري لا يذكر شيئًا عن صلب المَسِيح إلا أنه يُؤكّد بما لا يدعو للشك أن شخصيّة بيلاطس، الحاكم الرُومَاني الّذي حكم على يَسُوع المَسِيح بالصلب، شخصيّةٌ تاريخيّة كما ذكرت لنا الأناجيل الأربعة. تابوت (صندوق) قيافا. في سنة 1990 عثر علماء الآثار على صندوق من الحجر الجيري المزخرف يحتوى على رُفات بشريّة ومكتوب عليه بالآراميّة "يوسف ابن قيافا" ولأن الصندوق والرفات يعودان إلى القرن الأوّل الميلادي يقول العلماء إن هذه الرفات هي رفات رئيس الكهنة قيافا الّذي وقف أمامه يَسُوع في مجمع السنهدريم ليحاكم. "والّذينَ أَمْسَكُوا يَسُوع مَضَوْا بِهِ إلى قَيَافَا رَئِيسِ الكَهَنَةِ، حيث اجْتَمَعَ الكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ " (متى 26).

تخيل نفسك ولو للحظة قاضى ولانك قاضى فأنت مطالب بأن تحكم بالعدل. لو جاء اليك شخصان ويريدان ان يشهدا عن نفس الحادثة، الاول لم يأتي بدليل واحد يؤكد شهادته، لا دليل تاريخي ولا دليل منطقي. أما الشخص الاخر فقد قدم البراهين التى تؤكد صدق كلامه، براهين تاريخية ووثائق وتفاصيل عن المكان والزمان والاشخاص. فاي من الشهادتين تقبل؟

براهين صلب المسيح من خارج الكتاب المقدس  

إن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل شهد عن المَسِيح وموته أشخاص من خارج دائرة الإيمان المَسِيحي؟ هل توجد كتابات لمؤرّخين يَهُود ورُومَانيين تكلّموا عن المَسِيح بشكل يؤكّد أنه شخص تاريخي مات على الصليب؟ .بكل تأكيد توجد كتابات تذكر شخص يَسُوع، وهذه الكتابات مُهمّة من وجهة نظرنا لأنها تبرهن على صِدق الأَناجيل وعلى تاريخية المَسِيح وصلبه.

أوّلًا، الوثائق اليَهُودية 

  1. يوسيفوس المؤرخ اليَهُودي (37 – 100 م) - يوسيفوس ابن ماتياس الذي وُلد في أُورُشَليم سنة 37 من عائلة ارستقراطية كهنوتية كبيرة. خدم يوسيفوس الرُومَان وأصبح كاتب ومترجم لدى الامبراطور فلافيان فسبسيان وابنه تيطس وكذلك دومتيان، حيث تبّناه القيصر فأصبح اسمه فلافيوس يوسيفوس. في كتاب "تراث اليَهُود" Antiquities of the Jews تحدّث يوسيفوس عن يَسُوع المَسِيح مرتيْن، وتحدث عن يوحنا المعمدان مرّة واحدة. إن شهادة يوسيفوس عن يَسُوع يطلق عليها اسم Testimonium Flavianum أي الشهادة الفلافية. يشير يوسيفوس إلى حقيقة صلب المسيح وانه قد تمّ الحكم عليه على عهد بيلاطس البنطي (26 – 36 ميلادية)، وهذه شهادة صادقة قديمة عن يَسُوع المَسِيح وموته.
  2. شهادة التلمود - يشتمل التلمود على تعاليم اليَهُود وقادتهم الّتي توارثوها عبر الأجيال من القرن الخامس قبل الميلاد وحتى سقوط أُورُشَليم سنة 70م. أكد التلمود بصورة واضحة على تاريخية يَسُوع المَسِيح، كما أكد عداء اليَهُود له مع إلقاء اللوم عليه وعلى تعاليمه، لكن في نفس الوقت أكّد أيضًا حقيقة موته وحُكم الصلب الذي نُفّذ فيه، وتاريخية هذا الصلب حيث إنّ يَسُوع صُلب ليلة الفصح كما أكّدت البشائر الأربع وأنه لم يدافع عنه أحد، بل حتى هو لم يدافع عن نفسه. إن شهادة الأعداء هذه تعتبر شهادة مُهمة لأنها أكّدت تاريخية شخص يَسُوع وتاريخية الصلب.

ثانيًا، الوثائق الرومانية 

تُظهر كتابات آباء الكنيسة الأولى، بما لا يدعو للشك، أن الحكومة الرُومَانية تحتفظ بسجّلات وتقارير بيلاطس البنطي الذي حكم ونفذ موت الصلب على يَسُوع المَسِيح. هذه قائمة بأشهر امؤرخين الرومان الذين ذكروا حقيقة صلب المسيح.

  1. كرنيليوس تاسيتوس / Cornelius Tacitus (56 – 120 ميلادية) - وُلد تاسيتوس سنة 56 ميلادية، وخدم كعضو في البرمان الرُومَاني في فترة حكم القيصر فاسبيان. لُقّب تاسيتوس بمؤرخ رُومَا العظيم، ومن أشهر أعماله كتابان: الأوّل الحوليّات Annals وقد كتبه سنة 116م، وفيه يتناول تاريخ رُومَا من موت الامبراطور اجاستوس سنة 14م وحتى موت نيرون سنة 68م. الكتاب الثاني عنوانه "التاريخ"، وفيه يتناول تاسيتوس تاريخ رُومَا من موت نيرون 68م وحتى موت دومتيان سنة 96م. في المجلد الأوّل؛ الحوليات، يصف لنا تاسيتوس في الفصول من 38 إلى 45 حادث حريق رُومَا سنة 64 وكيف ألقى الامبراطور نيرون بالتهمة على المَسِيحيّين ليكونوا كبش فداء. يقول تاسيتوس، "ولكى يتخلّص نيرون من تهمة (حرق رُومَا) ألصق هذه الجريمة بطبقة مكروهة تُعرف باسم المَسِيحيّين ونكّل بهم أشد تنكيل. والمَسِيح الذي اشتق منه المَسِيحيون اسمهم، كان شخصًا حكم عليه بالموتexecuted في عهد طيباريوس على يد أحد ولاتنا المدعو بيلاطس البنطي..." إن شهادة تاسيتوس مُهمة جدًا لأنها تؤكّد على عدّة حقائق مرتبطة بالمَسِيح يَسُوع تكلّمت عنها البشائر الأربع، وهي: حُكم الموت على المَسِيح تمّ على عهد بيلاطس البنطي حاكم اليَهُودية (في الفترة من 26 إلى 36م).
  2. بليني الصغير Pliny the Younger (61 – 113 م) - كان بليني معاصرًا لتاسيتوس المؤرخ العظيم، وكان عضوًا في البرلمان الرُومَاني (السينت) وواحد من أشهر المحامين في رُومَا. عُين كحاكم لولاية بيثينيّة في آسيا الصّغرى Pontus-Bithynia. كتب بليني عشرات المجلدات والّتي تضمنت رسائل أرسلها هو إلى القيصر تراجان Trajan (98 – 117م). من أهم الأمور التى أكدها بليني الصغير هي: (1) كان المسيحيون يعتبرون المَسِيح إلهًا لهم، وهذا تأكيد على أن الإيمان بلاهوت المَسِيح هو إيمان أصيل، بل هو جوهر الإيمان المَسِيحي منذ نشأة الكنيسة، وليس كما يدعي البعض بأنه إيمان بدأ مع جمع نيقية 325م. (2) كان المَسِيحيون يرنّمون للمسيح ترانيم وتسابيح (3) كان المَسِيحيون يجتمعون في يوم محدّد كل أسبوع للعبادة وتناول وجبة مع بعضهم البعض. طبعًا كان هذا اليوم هو أوّل أيام الأسبوع؛ يوم الأحد الذى يتذكّر فيه المؤمنون قيامة السيد المَسِيح من بين الأموات. ولأن القيامة تتطلّب بل وتحتّم الموت، يكون كلام بليني هو تأكيد على حقيقة الإيمان المَسِيحي بموت يَسُوع المَسِيح وقيامته، فالمَسِيح مات ودفن وقام، ولأنه بالحقيقة مات فهو أيضًا بالحقيقة قام.
  3. لوسيان اليُونانيّ Lucian of Samosata (115 – 200م) - كان لوسيان أحد أشهر المؤرخين اليُونانيّين البارزين في مطلع القرن الثاني الميلادي. واشتهر لوسيان بأنه كاتب ساخر ومن أتباع المذهب الأبيقوري، ويوجد أكثر من 80 عمل يحمل اسم لوسيان أشهرهم كتاب بعنوان "موت بيرجرينوس"The Death of Peregrinus.. يقول لوسيان، "إن المَسِيحيّين، كما نعلم، ما زالوا يعبدون إلى هذا اليوم رجلًا ذا شخصية متميّزة، استنّ لهم شرائعهم الجديدة التي يمارسونها والتي كانت عِلّة صلبه" يؤكّد لوسيان أن الرجل الذي يعبده المَسِيحيّون والذى استن لهم شرائع جديدة "قد صُلب من أجلهم."
  4. ثالوس Thallus (55 ميلادية) - لا نعرف الكثير عن ثالوس إلا أنه كان من مؤرّخي الرُومَان القدامى الذين فُقدت أعمالهم ولا نجد لهم ذكر إلا في مصادر ثانوية اقتبست من هذه الأعمال قبل أن تفقد. عاش ثالوس في منتصف القرن الأوّل الميلادي ويذكر اسمه في كتابات إيوسبيوس Eusebius ويوليوس الأفريقي Julius Africanus الّذي كتب عن صلب المَسِيح سنة 221 ميلادية. وهو من أوائل الكُتّاب الأمميّين (من خارج شعب اليَهُود) الذين ذكروا المَسِيح عام 52 م، ولكن كتاباته ضاعت ولا نعرف عنها إلاّ ما اقتبسه منها كُتّاب آخرون. وقد اقتبس كاتب مسيحي اسمه أفريكانوس (221 م) من كتابات ثالوس. قال: "إنّ ما ذكره ثالوس في ثالث كُتُبه التّاريخيّة من أن الظّلمة كانت بسبب كسوف الشّمس، ليس صحيحًا، لأن كسوف الشّمس لا يحدث في وقت كمال القمر، وقد حدث صلب المَسِيح وقت الفصح، وهو وقت كمال القمر." إن شهادة ثالوس عن الظلام تؤكّد رواية الأَناجيل عن الظلام الذي حل على الأرض عند موت يَسُوع المَسِيح. "وَمِنَ السّاعَةِ السّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلّ الأرض إلى السّاعَةِ التّاسِعَةِ" (متّى 27: 45)

الفصل السادس

ح من الأموات

قيامة المَسِيح

إن الإِيمَان المَسِيحي هو إِيمَان القيامة، فالصليب لم يكن هو نهاية الأمر، ولم يكن الحجر الذي وُضع على القبر خاتمة القصّة، بل القيامة المجيدة من بين الأموات والنصرة على الموت كانتا النهاية المُفرحة. فبدون القيامة لا إنجيل، ولا يوجد خبر سار ولا بشارة مفرحة. بدون القيامة كذلك لا إِيمَان ولا رجاء ولا كنيسة ولا عبادة. يقول الرّسُول بُولُس «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ المَسِيح قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أيضًا إِيمَانكُمْ، وَنُوجَدُ نَحْنُ أيضًا شُهُودَ زُورٍ للهِ، لأَنَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ اللهِ أَنَّهُ أَقَامَ المَسِيح وَهُوَ لَمْ يُقِمْهُ، أن كَانَ الْمَوْتى لاَ يَقُومُونَ. لأَنَّهُ أن كَانَ الْمَوْتى لاَ يَقُومُونَ، فَلاَ يَكُونُ المَسِيح قَدْ قَامَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ المَسِيح قَدْ قَامَ، فَبَاطِلٌ إِيمَانكُمْ. إنتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ! إِذًا الَّذِينَ رَقَدُوا فِي المَسِيح أيضًا هَلَكُوا!» (كورنثوس الأولى 15: 14–18). قيامة المَسِيح هي العمود الفقري للإِيمَان المَسِيحي كله، فقيامة المَسِيح هي المحصلة والنتيجة الطبيعيّة لمجئ المَسِيح إلى الأرض، ولعمله الكفاري، وعلى أساس القيامة تمّ تأسيس الكنيسة ومجئ الروح القدس وانسكابه، ويتم تجهيز الكنيسة للمجئ الثاني للمسيح ولملكه النهائي. بدون القيامة يكون التجسُّد والموت الفدائي والإنجيل وتأسيس الكنيسة والكرازة بالإنجيل وحقيقة المجئ الثاني مجرّد أفكار جميلة بل أوهام دون قيمة أو فاعليّة حقيقيّة.

في هذا الفصل المهم سوف أجيب على عدّة أسئلة مهمّة، منها صحّة قيامة المَسِيح وتاريخيّتها، بمعنى هل قيامة المَسِيح حقيقة تاريخيّة؟ هل هي قيامة ماديّة جسديّة؟ ما الأدلة على قيامة المَسِيح؟ ما أهميّة قيامة المَسِيح من بين الأموات بالنسبة للمؤمنين؟ وهل صعود المَسِيح حقيقة تاريخيّة أخرى؟ وما علاقة قيامة المَسِيح وصعوده وتمجيده بعمله الحالي في السماء من أجلنا؟

حقائق مرتبطة بقيامة يَسُوع 

أولًا: حقيقة القبر الفارغ 

يُخبرنا الكتاب المُقدّس أن يوسف الرامي تقدّم إلى بيلاطس وطلب منه أن يأخذ جسد يَسُوع ويضعه في قبر يمتلكه هو. فقام يوسف مع مريم العذراء ويُوحَنّا الحبيب وبعض النسوة اللاتي كُنّ عند القبر بأخذ الجسد ووضعه في القبر الفارغ. لدينا إذًا شهادة مؤكّدة بواسطة أكثر من شخص بل عشرات الأشخاص المؤمنين بيَسُوع وغير مؤمنين به، الأحباء والأعداء على السواء، بأن جسد يَسُوع وُضع في القبر. والحقيقة التي ارتبطت بنفس المكان في اليوم الثالث من موت يَسُوع هي أن القبر كان فارغًا. تُخبرنا الأناجيل الأربعة بأن القبر وُجد فارغًا والجسد غير موجود (يُوحَنّا 20: 1- 6).

براهين القبر الفارغ 

ما الأدلة والبراهين التي تؤكّد أن القبر الذي وُضع فيه يسوع المسيح وُجدَ فارغًا؟ البراهين على ذلك كثيرة، وأذكر منها الآتي:

أوّلًا: لقد نادى التلاميذ بقيامة يَسُوع المَسِيح من بين الأموات. ففي نفس المدينة وبعد فترة وجيزة من حادثة الصلب والموت والدفن (خمسين يومًا)، وقف التلاميذ في وسط العاصمة أورشليم، حيث كانت الأحداث المتعلّقة بصلب يَسُوع وموته ما زالت حاضرة في الأذهان وتدور حولها الأحاديث الخاصّة والعامّة، وقفوا ليعظوا عن قيامة المَسِيح من بين الأموات. لا يمكن، بأي صورة من الصور، أن يُعرّض التلاميذ حياتهم للموت في سبيل خدعة اخترعوها أو وهم صدّقوه؛ فالقبر موجود، والأعداء -قبل الأحباء- يُمكنهم التأكّد من كلام التلاميذ ومن شهادتهم عن قيامة المَسِيح. لو لم يكن المَسِيح حقًا قد قام لصارت شهادة التلاميذ عن القيامة موضوعَ سُخرية الناس ومقاومتهم ولماتت الكنيسة قبل أن تُولد (متّى 28: 11–15).

ثانياً: إن حقيقة القبر الفارغ تُبني على مصداقيّة موت يَسُوع المَسِيح ودفنه. لقد دُفن يَسُوع في قبر مملوك لرجل غني اسمه يوسف الرامي، وهو شخصيّة كانت معروفة، لأنه كان واحدًا من أعضاء مجمع السنهدرين اليهودي (الهيئة القضائيّة الدينيّة العليا).

ثالثاً: لو لم يكن يَسُوع المَسِيح قد قام لصار القبر مزارًا يحجُّ إليه أتباعُه ليقدّموا احترامهم لسيدهم الميت. إلا أن هذا لم يحدث أبدًا، فلا يوجد سِجّل تاريخي واحد يذكر هذا الأمر.

رابعاً: أن أوّل من اكتشف أن القبر فارغ هم النسوة، ولأن المجتمع اليهودي لا يعتد كثيرًا بشهادة النساء، فهذا يؤكّد حقيقة القيامة ولا ينفيها. فلو كانت القيامة من اختراع التلاميذ أو الكنيسة لكان من المستحيل أن يجعلوا أول شاهد عن قيامة المَسِيح امرأة من النساء إذ يعلمون جيدًا أن اليهود لن يقبلوا هذه الشهادة. لكن لأن القيامة حدث تاريخي تمّ فعلًا والنساء كُن أول من اكتشفن هذا الحدث وأخبرن به فهذا دليل آخر إضافي على أن الحدث قد تمّ فعلًا.

ثانيًا: حقيقة ظُهورات يَسُوع المَسِيح

ما يؤكّد موت المَسِيح أنه دفن وما يُؤكّد قيامته أنه ظهر. ويُسجل لنا الوحي الإلهي ظُهورات يَسُوع المَسِيح كما يلي:

  1. ظُهوره لمريم المجدليّة عند القبر (يُوحَنّا 20: 11- 18).
  2. ظُهوره للنساء وهُنّ راجعات من القبر (في الطريق بين القبر وأورشليم) (متّى 28: 5-6).
  3. ظُهوره لبُطرُس في أورشليم (لوقا 24: 34).
  4. ظُهوره لتلميذيّ عمواس (لوقا 24).
  5. ظُهوره ليعقوب وحده (كورنثوس الأولى 15: 7).
  6. ظُهوره للتلاميذ بدون توما في العليّة في أورشليم (يُوحَنّا 20: 19 -29).
  7. ظُهوره للتلاميذ مع توما في العليّة في أورشليم (يُوحَنّا 20: 24–29).
  8. ظُهوره لسبعة من الرسل على شاطئ بحر طبريّة (يُوحَنّا 21: 1- 23).
  9. ظُهوره للتلاميذ قبل صُعوده على جبل الصعود (متّى 28: 16–20).
  10. ظُهوره ليَعقُوب (كورنثوس الأولى 15: 7).
  11. ظُهوره لأكثر من خمسمائة أخ دفعة واحدة (كورنثوس الأولى 15: 6).

كل ظُهورات يَسُوع بعد قيامته وقبل صعوده ظُهورات ماديّة جُسمانيّة، فقد وقف يَسُوع بهيئته الجسديّة الماديّة أمام التلاميذ أكثر من مرّة. وفي إحدى المرات أمر توما أن يلمسه ليرى ويتأكّد من مكان المسامير في يديْه وأثر الطعنة في جنبه. لم يشُك أي من الأشخاص الذين ظهر لهم يَسُوع المقام في حقيقة ظُهور المَسِيح المادي والجسدي. كيف يمكن أن نُفسّر ظُهورات يَسُوع المَسِيح إن لم يكن المَسِيح حقًا قد قام؟ أمامنا عدة احتمالات، وهذه الاحتمالات هي كالآتي:

  1. الاحتمال الأول: أن تكون ظُهورات يَسُوع المَسِيح مُجرّد كذبة اخترعها التلاميذ ليخرجوا من الأزمة التي كانوا يمرّون فيها. لقد كانوا يتمنّون ألا يموت سيدهم ويتركهم. ولهذا سرقوا جسد معلّمهم واخترعوا كذبة قيامته. إن القصّة كلها في نظر من يؤمنون بهذا الفكر هي مؤامرة اخترعها ونفّذها تلاميذ المَسِيح بكل مكر وخبث ودهاء. لكن كيف يمكن تفسير أن من وجد القبر الفارغ هم النساء؟ فلو اخترع بعض الرجال اليهود قصّة كهذه فلن يكون بطلُها هو النساء بل الرجال. وكيف يمكن أن نُفسّر استشهاد التلاميذ؟ هل يمكن لإنسان يعرف أن ما ينادي به كذب وتلفيق أن يموت من أجل هذا الكذب؟ هل يمكن أن يموت الإنسان مخدوعًا بمعنى أن يعتقد في أمر ما أنه حق ولكن في الحقيقة يكون هذا الأمر كذبًا؟
  2. الاحتمال الثاني: أن يكون ما حدث ليَسُوع هو مُجرّد إغماء أو «موت ظاهري» وليس موتًا حقيقيًا. لقد نادي المشكّكون في قيامة المَسِيح في القرن التاسع عشر بهذه النظرة قائلين إن يَسُوع لم يمت موتًا حقيقيًا بل راح في غيبوبة طويلة بعض الشيء نتيجة للإرهاق الشديد ولنزف الدم والمعاناة الجسديّة والنفسيّة، ولكنه حين أُنزل من على الصليب ووُضع في القبر الرطب انتعش جسده من جديد، وفاق من الغيبوبة، وخرج من القبر وهرب ليقنع تلاميذه بأنه قام من بين الأموات! إن هذه النظريّة، وإن كانت تعبّر عن فكر الرجل العصري الذي يرفض قُبول قيامة المَسِيح بحُجّة إنها معجزة غير قابلة للتصديق، يقع في مطب كبير لا يستطيع أن يخرج منه. فكيف ليَسُوع الذي دُقّت المسامير في يديْه ورجليْه، وقطعت أوصاله جرّاء الجلد القاسي، وتمزّقت عروقه وأعصابه، واخترقت الحربة جنبه، ونزف الكثير من دمه، كيف له أن يسترد صحّته وقواه بهذه السرعة، فينزع عنه الحنوط التي لصقت بجسده، ويقوم ثم يدحرج حجرًا كبيرًا وزنُه ما بين ثمانية إلى عشرة أطنان؟ والأكثر من كل ذلك، كيف يفلت من الحُرّاس الرومان المدجّجين بالسلاح ويقطع على قدميْه مسافة طويلة ليهرب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد؟
  3. الاحتمال الثالث: أن يكون موضوع قِيامة المَسِيح مُجرّد هلوسة. لكن هذه النظرية تسقط أمام حقيقة ظُهور يَسُوع المَسِيح منظورًا بالجسد، فالتلاميذ جلسوا معه ولمسوه وأكلوا وشربوا معه بعد قيامته. كما أن الهلوسة لا يمكن أن تكون وباءً يصيب كل التلاميذ دفعة واحدة، فمن الصعب أن يُصاب كل التلاميذ بالهلوسة، فالهلوسة تُصيب بعض أفراد وليس الجماعة بأكملها التي وصل تعدادها إلى أكثر من خمسمئة شخص. إن الهلوسة لا يُمكن أن تغيّر واقعًا، ولا يمكن أن تصنع تحولًا في الأشخاص.
  4. الاحتمال الرابع (والأخير): أن تكون القيامة حقيقة تاريخيّة حدثت فعلًا في اليوم الثالث من صلب يَسُوع المَسِيح وموته. إن قيامة يَسُوع التاريخيّة هي التفسير المنطقي الذي يقبله العقل لمسألة ظُهورات المَسِيح بعد قيامته، فالمَسِيح قد ظهر للعشرات بل للمئات لأنه حقًا قد قام من بين الأموات، هذه القيامة هي السر وراء تغيُّر حياة التلاميذ الخائفين والمنزعجين ليصبحوا بعدها مُبشّرين، بكل جراءة، بقيامة يَسُوع من بين الأموات. إن سر إنتشار الإِيمَان المَسِيحي بل والقوّة المحرّكة له هو قيامة يَسُوع المَسِيح من بين الأموات. فلو لم يكن يَسُوع المَسِيح قد قام من بين الإِيمَان لكان إِيمَان التلاميذ والمؤمنين إِيمَانًا باطلًا لا يستطيع أن يصمد أمام التحديات والصُعوبات والاضطهادات، وليس فقط الصمود أمام الاضطهادات بل أيضًا الانتصار عليها وتجاوزها لانتشار الإِيمَان وربح الملايين للمسيح. إن الحقيقة الأولى المثبتة بواسطة كل شهود العيان هي أن يَسُوع مات ودفن وقام وظهر للتلاميذ الأوائل. لقد لخّص الرّسُول بُولُس إِيمَان الكنيسة الأولى في الكلمات التالية «أن المَسِيح مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ» (كورنثوس الأولى 15: 3-4).

أهميّة قيامة المَسِيح من الأموات  

وقيامة المَسِيح من بين الأموات مهمّة جدًا وهذه الأهميّة مرتبطة بحقيقة الإِيمَان المَسِيحي وبطبيعة شخص يَسُوع المَسِيح وبنا نحن البشر. فمن جهة الإِيمَان المَسِيحي، أكّدت قيامة يَسُوع المَسِيح صدقَ الإِيمَان المَسِيحي، ولهذا قال الرّسُول بُولُس «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ المَسِيح قَدْ قَامَ، فَبَاطِلٌ إِيمَانكُمْ» (كورنثوس الأولى 15: 17).

أما فيما يتعلّق بطبيعة وعمل شخص يَسُوع المَسِيح، فقد برهنت القيامة على:

  1. برهنت قيامة المَسِيح على أن يَسُوع المَسِيح الذي عاش في اليهوديّة هو فعلًا وحقًا «ابن الله». يقول الرّسُول بُولُس «وَتَعَيَّنَ (تبرهن وتأكّد) ابن اللّهِ بِقُّوَةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ القَدَاسَةِ، بالقِيَامَةِ مِنَ الأموات» (رُوميَة 1: 4)، فالقيامة هي الدليل القاطع على ألوهيّة المَسِيح.
  2. كذلك برهنت قيامة المَسِيح على قُبول الله الآب للعمل الكفاري الذي أنجزه الابن على الصليب من أجل الخطاة. لهذا قال يَسُوع المَسِيح عن مَحبّة الله «هكذا أَحَبَّ اللّه العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيّة .. الذي يُؤْمِنُ بِهِ لَا يُدَانُ، وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ» (يُوحَنّا 3: 16-18).
  3. برهنت القيامة أيضًا على أهليّة يَسُوع كالوسيط والشفيع الوحيد، فالمَسِيح بموته النيابي على الصليب أوفى كل مطالب العدالة الإلهيّة. لهذا يقول الوحي «لِأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللّهِ وَالنَّاسِ: الْإنسان يَسُوع المَسِيح، الذي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْية لِأَجْلِ الجَمِيعِ» (1تيموثاوس 2: 5-6).
  4. برهنت القيامة على صدق وعوده من نحو المؤمنين، فلو كان المَسِيح قد ظلّ في القبر لانقطعت علاقته بالمؤمنين، ولكان من المستحيل أن يكون معهم في كل وقت ومكان وإلى انقضاء الدهر (متّى 28: 20).
  5. برهنت قيامة المَسِيح على أحقيته بدينونة الأشرار. لهذا يقول هو نفسه وبفمه الطاهر «وَمَتَى جَاءَ ابن الإنسان فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ المَلَائِكَةِ القِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ .. ثُمَّ يَقُولُ المَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا المَلَكُوتَ المُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ العَالَمِ. ثُمَّ يَقُولُ أيضًا لِلَّذِينَ عَنِ اليَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلَاعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيّة المُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِه» (متّى 25: 31-46).
  6. أكّدت القيامة أن يَسُوع المَسِيح هو رب الكل، وهو صاحب كل السلطان في السماء وعلى الأرض «فَتَقَدَّمَ يَسُوع وَكَلَّمَهُمْ قَائِلًا «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ» (متّى 28: 18). يقول الرّسُول بُولُس «أَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وَلكِنْ حِينَمَا يَقُولُ «إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُخْضِعَ» (كورنثوس الأولى 15: 27).

أهميّة قيامة المَسِيح من الأموات نتائج قيامة المَسِيح بالنسبة للمؤمنين 

  1. نوال التبرير: لأن المَسِيح «أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لِأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رُوميَة 4: 25). فكما أن موته هو للتكفير عن خطايانا، فإن قيامته هي لتبريرنا.
  2. إرسال الروح القدس المعزّي ليمكث معنا. كانت مهمّة إرسال الروح القدس ليسكن في قلوب المؤمنين متوقّفة على قيامة المَسِيح من بين الأموات وصعوده إلى السماء «وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الذي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الذي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي» (يُوحَنّا 15: 26). «لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أن أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ أن لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ أن ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ» (يُوحَنّا 16: 7).
  3. صار يسوع رأس الكنيسة والخليقة الجديدة: فبقيامته من الأموات صار يَسُوع رأس للخليقة الجديدة؛ أي الكنيسة التي هي جسده. يقول الرّسُول بُولُس «الَّذِي عَمِلَهُ فِي المَسِيح، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأموات، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ اسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هذَا الدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا، وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، التي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الذي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ» (أفسس 1: 20–23).
  4. بالقيامة صار المَسِيح شفيعنا. إن خدمة المَسِيح الحالية من أجلنا في السماء أنه يشفع من أجلنا. يقول الرّسُول يُوحَنّا الحبيب «يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوع المَسِيح الْبَارُّ» (يُوحَنّا الأولى 2: 1).
  5. المواهب الروحيّة للمؤمنين. إن نوالنا كمؤمنين للمواهب الروحيّة ارتبط بقيامة المَسِيح وبصعوده. يقول الرّسُول بُولُس «لِذلِكَ يَقُولُ «إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْيًا وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا». وَأَمَّا أَنَّهُ «صَعِدَ»، فَمَا هُوَ إلا أنهُ نَزَلَ أيضًا أَوَّلًا إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ السُّفْلَى. الذي نَزَلَ هُوَ الذي صَعِدَ أيضًا فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ الْكُلَّ. وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أن يَكُونُوا رُسُلًا، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ، لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ المَسِيح» (أفسس 4: 8–12).
  6. قيامة المسيح ضمانٌ لقيامتنا. هذه الحقيقة أكّدها هو بنفسه عندما قال «لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ» (يُوحَنّا 5: 28-29). ويقول الرّسُول بُولُس «عَالِمِينَ أن الذي أَقَامَ الرَّبَّ يَسُوع سَيُقِيمُنَا نَحْنُ أيضًا بِيَسُوع، وَيُحْضِرُنَا مَعَكُمْ» (كورنثوس الثانية 4: 14).

لقد تساءل الناس، مرّات ومرّات، عن طبيعة يَسُوع المَسِيح الذي عاش بينهم قائلين "من هو هذا؟" إنه سؤال سأله جماعة الكتبة والفريسيون عندما قال يَسُوع للمفلوج «أَيّهَا الإنسان، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». فَابْتَدَأَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرّيسِيّونَ يُفَكّرُونَ قَائِلِينَ «مَنْ هذَا الّذِي يَتَكَلّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ؟» فَشَعَرَ يَسُوع بِأَفْكَارِهِمْ، وَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَاذَا تُفَكّرُونَ فِي قُلُوبِكُمْ؟" (لُوقا 5: 21 – 22)، وسألته الجموع الّتي كانت متكئة مع يَسُوع في بيت الفريسي عندما أتت امرأة خاطئة ووقفت عند قدميه من ورائه باكية "ثُمّ قَالَ لَهَا: «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ». فَابْتَدَأَ الْمُتّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: «مَنْ هذَا الّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضًا؟». فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «إيمانكِ قَدْ خَلّصَكِ، اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ» (لُوقا 7: 40 - 42). كما طرح هيرودس رئيس الربع نفس السؤال عندما سمع عن معجزات يَسُوع وإرتاب "فَقَالَ هِيرُودُسُ: «يُوحَنّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هذَا الّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هذَا؟» وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ" (لُوقا 9: 9). لقد سأل تلاميذ يَسُوع المَسِيح أنفسهم أيضًا عن طبيعة معلمهم عندما وقف وانتهر الريح والبحر، فسكنت الريح وصار هدوء عظيم "فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنّ الرّيحَ أيضًا وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!» (مرقُس 4: 41). حتى الجموع الّتي شفى يَسُوع مرضاها وأقام موتاها وحرّر المقيّدين منهم بأرواح شريرة وكان يعلّمهم قالوا «مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟" (مرقُس 6: 3). كما سأل يَسُوع المَسِيح تلاميذه في قيصرية فيلبس عمّا يقول الناس عنه، وسألهم أيضًا عن إيمانهم هم في شخصه "وَلَمّا جَاءَ يَسُوع إلى نَوَاحِي قَيْصَرِيّةِ فِيلُبّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلًا: «مَنْ يَقُولُ النّاسُ إِنّي أَنَا ابن الإنسان؟» فَقَالُوا: «قَوْمٌ: يُوحَنّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أو وَاحِدٌ مِنَ الأنبياء». قَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنّي أَنَا؟» فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطرس وَقَالَ: «أَنْتَ هُوَ المَسِيح ابن اللهِ الْحَيّ!» فَأجَابَ يَسُوع وَقَالَ لَهُ: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنّ أَبِي الّذِي فِي السّمَاوَاتِ" (متّى 16: 13 – 17). من هو هذا؟ سؤال قديم جديد مازال يُطرح، ومازال الإنسان يحاول أن يجد الإجابة الصادقة عليه.

في القرنيْن الأوّل والثاني للميلاد كان التحدي الذي واجه الكنيسة هو إنكار إنسانيّة المَسِيح. حدث ذلك بسبب انتشار التعاليم الغنوسيّة الّتي كانت تنادي بأن المادة شر في ذاتها والروح خير. لقد أنكرت الغنوسيّة أن يكون الله هو الخالق المباشر للكون، كما أنكرت أيضًا أن يكون يَسُوع المَسِيح إنسانًا كاملًا بحُجّة أن الجسد مادة والمادة شر، ولهذا فلا يمكن أن يكون للمسيح جسد مادي مثلنا. هذه البدعة وهذا الفكر اعتبره الرسول يُوحنّا "روح ضد المَسِيح"، فقال إن "كُلّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوع المَسِيح أنه قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ. وَهذَا هُوَ رُوحُ ضِدّ المَسِيح الّذِي سَمِعْتُمْ أنه يَأْتِي، وَالآن هُوَ فِي الْعَالَمِ" (يُوحنّا الأولى 4: 3). وحاربت الكنيسة الأولى هذه التعاليم واعتبرتها تعاليم مضللة وضد المَسِيح واستمر الوضع حتى القرن الثالث للميلاد حينما ظهر آريوس الذي لم ينكر ناسوت المَسِيح لكنه أنكر ألوهيته. أنكر آريوس أن يكون المَسِيح من نفس جوهر الآب وقال إن يَسُوع غير مساوٍ للآب. وإن كان مشابهًا له إلا أنه في الواقع أقل من الآب. هذه التعاليم دفع الكنيسة إلى محاولة وضع الإيمان المَسِيحي في صورة "قانون الإيمان"، فخرج لينا أوّل قانون للإيمان المَسِيحي سنة 325 ميلاديّة، أي قانون الإيمان النيقاوي الذي يُقر بحقيقة لاهوت المَسِيح وناسوته: "...نؤمن برب واحد يَسُوع المَسِيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كُلّ الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر، الذي به كان كُلّ شيء. هذا الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء". في الفصل الخاص بالتّجسُّد والميلاد العذراوي سوف نتناول أهميّة أن يكون المَسِيح إنسانًا كاملًا. لكن هنا أريد أن أؤكّد على أن أهميّة التمسك بلاهوت المَسِيح كحجر الأساس في الإيمان المَسِيحي وذلك للأسباب التالية:

  1. لكي يحمل الفادي كُلّ عقاب خطايا البشر بمن فيهم كُلّ الذين سيؤمنون به فلا بُد أن يكون الفادي غيرمحدود، فالشخص المحدود لا يقدر أن يحمل خطايا العالم أجمع.
  2. فقط الإله الحق هو الذي يمكن أن يكون الوسيط بين الإنسان والله (1 تيموثاوس 2: 5).
  3. الخلاص هو من عمل الرب وحده.

ملحق

أسئلة ونصوص كتابيّة تحتاج إلى إجابات وإيضاحات

هذا الملحق مخصّص للإجابة على الأسئلة والاعتراضات التى يُقدّمها البعض في موضوع لاهوت المسيح. فمنكرو لاهوت المسيح يسيئون تفسير بعض الأقوال التى نطق بها الرب يسوع المسيح. أضف إلى ذلك وجود بعض المفاهيم الخاطئة عن التجسّد الإلهي، حيث إنهم ينظرون إلى هذه النصوص والمفاهيم على أنها برهان إنسانيّة يسوع المسيح ليس إلا. إنه –من وجهة نظرهم- شخص عادي أو نبي من الأنبياء. لكن هل ينكر يسوع المسيح طبيعةَ شخصه ولاهوته في هذه النصوص فعلًا؟ ما التفسير الصحيح لهذه العبارات التى تُمثّل معضلة بالنسبة للبعض؟

السؤال الأول: كيف يمكن لله غير المحدود أن يصير في جسد محدود؟  

إن التجسُّد ليس معناه أن الله غير المحدود «تحوّل» إلى إنسان محدود، وليس معناه ارتقاء إنسان محدود ليصير إلهًا، لكن التجسُّد هو اتحاد الطبيعة الإلهيّة غير المحدودة بالطبيعة الجسديّة المحدودة. إن تجسّد الله ليس تحولًا، فالله لم يتحوّل ليكون إنسانًا، لأن هذا شر، وحاشا لله أن يتحوّل إلى إنسان! لكن التجسُد الإلهي هو اتحاد غير المحدود بالمحدود، دون أن يتحوّل غير المحدود ليصير محدودًا، أو أن يتحوّل المحدود ليصير غير محدود. لقد ظل اللاهوت لاهوتًا وظل الناسوت ناسوتًا.

لم يفصل الموت بين غير المحدود والمحدود (لا انفصال، ولا امتزاج، ولا اختلاط، لا لحظة ولا طرفة عين)، فالموت لا تأثير له على غير المحدود لأن الله وحده له عدم الموت. لكن الموت جاء للمحدود كفصلٍ بين الروح والجسد، وظل الروح في اتحاد مع غير المحدود، لهذا قال يَسُوع «في يديْك أستودع روحي». ولقد ظل أيضًا غير المحدود متحدًا بالجسد، فالله غير المحدود يحافظ على الجسد حتى لا يرى فسادًا. وفي القيامة، رجع الروح ليتحد بالجسد. فاللاهوت إذًا لا يموت. إن اتحاد غير المحدود بالمحدود لا يغيّر من صفات غير المحدود ولا من طبيعته، فالمحدود لا يغيّر غير المحدود ولا يجعله محدودًا. لقد حلّ الله بلاهوت كلمته في رحم العذراء مريم واتحد بجسد كامل دون أن يُحد هذا الجسد من لاهوته.

إن الله لا يموت وهو قائم بذاته، فالذي مات هو الناسوت بانفصال الروح عن الجسد، فالذي ذاق الموت هو جسد بشريته وليس لاهوته لأن اللاهوت لا يموت، فالمَسِيح مات بحسب الجسد لكن لم يمت بحسب طبيعته الإلهيّة. عندما مات يَسُوع المَسِيح على الصليب مات بالجسد فقط، أما رُوحه الإنسانيّة فبقيت حيّة متحدة بغير المحدود، وجسده في القبر بقى متحدًا بغير المحدود، فالذي وُضع في القبر هو جسد يَسُوع المَسِيح المتحد باللاهوت غير المحدود، ولكن في نفس الوقت كان لاهوته يملأ الوجود كله ولا يُحدّه القبر، فاستمر يسيطر على العالم كله ويحكمه كالمعتاد.

السؤال الثاني: ألا تدل كلمات يَسُوع المَسِيح «أبي أعظم منى» على أن يسوع مُجرّد إنسان؟  

«لأن أبي أعظم مني» (يُوحَنّا 14: 28). يتحدّث يَسُوع المَسِيح هنا للمرة الأخيرة مع تلاميذه في الأسبوع الأخير من أيام تجسّده. وقد أخبرهم، مرّة أخيرة، بحقيقة صلبه وموته وقيامته، كما أخبرهم بأنه لن يتركهم يتامى بل سيرسل لهم الروح القدس؛ الروح المعزي. لقد أصاب هذا الحديث التلاميذ بالحزن وبالاضطراب، فخبر رحيل معلّمهم الذي عاشوا معه وصاروا له تلاميذًا أصابهم بالحزن وبالخوف. لهذا قال لهم المعلّم الذي عرف ما في قلوبهم «لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ. سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ: أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ، لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي» (يُوحَنّا 14: 27-28). يعتبر هذا النص من النُصوص التي تُستخدم دائمًا من قبل كل ناكري لاهوت المَسِيح ابتداءً من آريوس وغيره ممن ادّعوا أن يَسُوع المَسِيح أقل مكانة أو أدنى مرتبة من الآب. لكن ماذا تعني عبارة يَسُوع المَسِيح «أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي»؟ هل قصد المَسِيح أن يؤكّد على أن الآب أعظم منه من حيث الجوهر؟ أم قصد أن يؤكّد لتلاميذه أنه مجرّد إنسان عادي كباقي البشر؟ أم أن هذه العبارة لا تنفي لاهوت المَسِيح بل في الحقيقة تؤكّده؟ لمعرفة معنى عبارة «لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي» دعونا نتفحصها بدقّة لنعرف معناها وماذا قصد يَسُوع منها.

بعض الحقائق حول عبارة «أبي أعظم مني» 

  • كلمة أعظم في اللغة اليّونانية لا تعني العظمة من حيث الجوهر، لكن تشير إلى الأعظم من حيث المكانة والحالة. وقد استخدم الرب يَسُوع نفس الكلمة في حديثه عن يُوحَنّا المعمدان عندما قال «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنّا الْمَعْمَدَانِ، وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ» (متّى 11: 11). إن عظمة يُوحَنّا المعمدان لا تكمن في كونه مختلفًا عن باقي البشر من حيث الجوهر، فهو إنسان كأي إنسان من لحم ودم، لكنه «أعظم» من حيث المكانة والحالة، فهو من حيث الإِيمَان والدعوة الإلهيّة والرسالة أعظم المولودين من النساء. فيُوحَنّا من حيث الطبيعة هو إنسان كباقي البشر، لكن من حيث المكانة هو أعظم. كما قال الرب يَسُوع في موضع آخر، «ليس العبد أعظم من سيده»؛ فالعبد والسيد كلاهما من جوهر واحد؛ الاثنان بشر، لكن العظمة هي في المكانة. فالاثنان من حيث الجوهر واحد لكن من حيث المكانة مختلفان. إذًا هنا لا يقصد يَسُوع المَسِيح بقوله «أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي» أن الآب أعظم من حيث الجوهر، فجوهر الآب هو نفسه جوهر الابن. ويقول المسيحيّون في قانون إيمانهم النيقاوي إن المسيح «مساوي/واحد مع الآب في الجوهر» لكن من حيث الحالة، فالآب في السماء أعظم من الابن وهو في حالة الاتضاع. إن الابن كان على الأرض في حال الإخلاء «أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد» (فيلبي 2: 7).
  • في نفس الآية قال يَسُوع المَسِيح لتلاميذه الحزاني «لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ». نحن نحزن عندما نسمع عن خبر هجرة الأحباء. وفي أوقات كثيرة نسمع من أحبائنا المهاجرين لو كنتم تحبّوننا لفرحتم، لأننا نهاجر إلى مكان أفضل وإلى بلاد أحسن. هذا هو بالظبط ما أراد يَسُوع المَسِيح أن يقوله لتلاميذه «لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ». والسبب لأن الآب في حالة المجد في السماء أعظم مني وأنا في حال الاتضاع على الأرض. فيَسُوع المَسِيح عائد إلى المجد والبهاء الذي له عند الآب قبل كون العالم، هذا المجد الذي تركه عندما «صار جسدًا وحلّ بيننا»، فقد ارتضى كلمة الله الأزلي، شخص المَسِيح أن يرتدي رداءً بشريًا محدودًا دون أن يؤثّر المحدود على غير المحدود. ارتضى من قيل عنه «كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» أن يأتي إلى عالمنا ويتحد بالمحدود؛ بالجسد، دون أن يؤثّر ذلك على لاهوته. عندما تجسّد المَسِيح أخذ طبيعة بشريّة. لقد ارتضى أن يأخذ المَسِيح الطبيعة البشريّة فدخل ضمن إطار المحدود (دون أن يتغيّر جوهره غير المحدود) تمامًا كما لم تتغيّر عناصر الهواء داخل الزجاجة بل احتفظ كل من الهواء الخارجي وهواء الزجاجة بنفس خصائصهما.
  • لقد أكّد يَسُوع المَسِيح في عبارات صريحة أنه واحد مع الآب «أنا والآب واحد» (يُوحَنّا30:10). واحد في اللاهوت، وفي الطبيعة، وفي الجوهر. وهذا ما فهمه اليهود من قوله، لأنهم لما سمعوه «أمسكوا حجارة ليرجموه» (يُوحَنّا 31:10). وقد كرّر المَسِيح نفس المعنى مرتيْن في مناجاته مع الآب، إذ قال للآب عن التلاميذ «أيها الآب احفظهم في اسمك الذين أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما أننا واحد» (يُوحَنّا 11:17). كما قال لفيلبس «من رآني فقد رأى الآب» (يُوحَنّا 9:14). وقوله للآب «كل ما هو لي، فهو لك. وكل ما هو لك، فهو لي» (يُوحَنّا 10:17)، «أنت أيها الآب فيَّ، وأنا فيك» (يُوحَنّا 21:17).
لهذا فقول يَسُوع المَسِيح «أبي أعظم مني» لا يُشير، بأي صورة من الصور، إلى أن يسوع أقل مكانة أو أدنى طبيعة من الآب، بل يتحدّث هنا يَسُوع عن حالة اتضاعه مقارنةً بحالة الآب في السماء.

السؤال الثالث: هل نفى المَسِيح الصلاح عن نفسه؟  

«وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيّة؟» َقَالَ لَهُ «لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ» (متّى 19: 16-17). استنادًا إلى هذا النص يقول البعض إنه بما أن يَسُوع ينفي الصلاح عن نفسه، وبما أنه يقول إن الله هو وحده الصالح، إذًا فالمَسِيح هنا يؤكّد إنسانيته وينفي عن نفسه الألوهيّة. وللرد أقول:

إن قول يَسُوع المَسِيح «لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟» لا ينفي عنه الصلاح ولا الألوهيّة بل يؤكّدها، فبحسب إعلان الله في العهد القديم وفي العهد الجديد فإن الصلاح لله وحده. لهذا يقول «لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا. اَلرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللهِ؟ الْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعًا، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (مزمور 14: 2-3؛ رُوميَة 3: 12). إلا أن هذا الشاب عندما جاء إلى يَسُوع وصف يَسُوع المَسِيح «بالمعلم الصالح». فكأني بيَسُوع يقول له «هل تعلم ماذا تقول؟ هل تصفني بالصالح؟ فإن كنت تقصد أنني صالح بمقياس الصلاح الإلهي فهذا يعني أنني الله». لنلاحظ أن يَسُوع المَسِيح لم يقل للشاب «لا تدعوني صالحًا»، إنما رفض أن يدعوه هكذا كمُجرّد لقب، فما لم يؤمن هذا الشاب بأن يسوع هو الصالح الوحيد، لأن الله هو وحده الصالح الوحيد، فلا يجب أن يناديه بهذا اللقب. إن يَسُوع المَسِيح هنا يؤكّد الصلاح لنفسه ولا ينفيه. كأن يسوع يقول: أنت تقول لي أيها المعلم الصالح وأنت تعلم أنه لا أحد من البشر صالح. هل تعني إنني أنا الله؟ إن المَسِيح يريد هذا الشخص أن يفكّر في الكلام الذي يقوله. إنه يريد أن يتحدّى هذا الشاب لكي يدرك أهمية هذا الاعتراف المهم.

السؤال الرابع: هل يعلم يَسُوع ساعة مجيئه الثاني؟ 

«وبينما وهو جالس على جبل الزيتون تقدّم إليه تلاميذه على إنفراد وقالوا له «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا؟ وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟» (متّى 24: 3). كانت إجابة يَسُوع المَسِيح على هذه الأسئلة الثلاثة إجابة وافيه وكاشفة عن كل الأحداث والعلامات المستقبليّة المتعلّقة بدمار الهيكل وعلامات مجيئه وعلامات انقضاء الدهر (أنظر متّى 24). ثم ختم المَسِيح حديثه بعبارة مهمة جدًا فقال «السَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (24: 35) وكأنه يختم ويؤكّد على صدق كل ما أخبرهم به، وأنه حقًا سيتم كما قال. وحتى لا يسأل التلاميذ عن موعد حُدوث ذلك قال لهم يَسُوع المَسِيح «وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ الاِبْنُ إلاَّ الآبُ» (مرقس 13: 32).

إن التساؤل الذي يطرحه البعض هو أن المَسِيح لا يعرف ساعة مجيئه! كان الرب يَسُوع يتكلّم عن علامات نهاية الزمان وعمّا سيحصل في المستقبل. قال للتلاميذ «أتشاهدون حجارة الهيكل، هذه الحجارة وتلك الأبنيّة ستسقط، ولن يُترك هنا حجر على حجر!» كان يسوع يتكلّم عن المستقبل القريب، وبعد كلامه هذا بنحو أربعين سنة دُمّر الهيكل (سنة 70م). ثم قال التلاميذ له، وهو جالس على جبل الزيتون، قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي العلامة عندما يتم جميع هذا؟ فأجابهم يَسُوع وابتدأ يقول «انظروا! لا يُضلّكم أحد. فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: إني أنا هو! ويُضلّون كثيرين. فإذا سمعتم بحروب وبأخبار حروب فلا ترتاعوا، لأنها لا بد أن تكون، ولكن ليس المُنتهى بعد. لأنه تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتكون زلازل في أماكن، وتكون مجاعات واضطرابات. هذه مبتدأ الأوجاع. فانظروا إلى نفوسكم. لأنهم سيسلمونكم إلى مجالس، وتُجلدون في مجامع، وتُوقفون أمام ولاة وملوك، من أجلي، شهادة لهم. وينبغي أن يُكرز أولا بالإنجيل في جميع الأمم. فمتى ساقوكم ليُسلموكم، فلا تعتنوا من قبل بما تتكلّمون ولا تهتموا، بل مهما أُعطيتم في تلك الساعة فبذلك تكلّموا. لأن لستم أنتم المتكلّمين بل الروح القدس. وسيُسلم الأخ أخاه إلى الموت، والأب ولده، ويقوم الأولاد على والديهم ويقتلونهم. وتكونون مُبغضين من الجميع من أجل اسمي. ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص». ثم تكلّم المسيح عن خراب أورشليم، بصورة عامة، وتكلّم عن المجئ الثاني الذي لم يتم بعد، فقال «وأما في تلك الأيام بعد ذلك الضيق، فالشمس تُظلم، والقمر لا يُعطي ضوءه، ونجوم السماء تتساقط، وقوّات السماوات تتزعزع. وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحاب بقوّة كثيرة ومجد». إن ابن الإنسان هنا هو المَسِيح، وهو بلا شك ليس مجرّد «إنسان» يُرسل ملائكته (خُدّامه). إن الإشكاليّة هنا أن يسوع يمكن أن يكون نبي لكن في نفس الوقت يتكلّم بسلطان أعظم من نبي. إنه ابن الإنسان الذي يُرسل ملائكته ويجمع مختاريه من أربع أطراف الأرض. الأصحاح كلّه يتكلّم عن المَسِيح الذي هو أعظم من نبي. إن المَسِيح يتكلّم عما سيحدث عند مجيئه الثاني، وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحاب بقوّة كثيرة ومجد، لقد تكلّمنا سابقًا عن هذا النص وقلنا إن المجئ على السحاب بحسب الفكر اليهودي هو حُضور الله للدينونة وللخلاص، وهذا أمر مختص فقط بالله حسب نبؤات العهد القديم. والنص هنا يتكلّم عن المَسِيح الذي يعرف المستقبل، وأيضًا عن المسيح الذي يصنع هذا المستقبل آتيًا في سحاب بقوّة كثيرة ومجد الملائكة. لقد تكلّم الكتاب عن المسيح كصانع المستقبل، وهذه الآية لا تختلف عمّا قبلها «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب». هناك تسلسُل في ترتيب هذه الآية.

لقد تكلّمنا قبل ذلك عن مثل الكرّامين الأردياء. قال صاحب الكرم في آخر المثل «أرسل ابني، لعلّهم يهابونه». وهنا يقول المسيح إن الساعة لا يعلم بها أحد من البشر. ومرّات ومرّات قال المسيح إن ابن الإنسان سيأتي كلصٍ «واعلموا هذا: أنه لو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق، لسهر ولم يدع بيته ينقب». لا أحد من الناس ولا الملائكة، وفي الأخير «ولا الابن». لنلاحظ هنا التسلسل المطروح؛ فالابن هنا أعظم من الكل، بل أعظم من الملائكة الذين في السماء. قلنا سابقًا إنه عندما ارتضى المَسِيح أن يأتي إلى الأرض ارتضى أن يُعطي الآبَ حقوقًا، وهذه الحقوق أعطاها للآب لأنه جاء إلينا كفادٍ. لقد جاء كعبد، جاء كمخلّص، جاء كمتألّم إذ «تعلّم الطاعة ممّا تألم به» حين خضع لأجل تتميم الفداء. إن واحدة من الأمور التي أعطاها المَسِيح للآب هي أن يعلن ساعة مجيء الابن للأرض ليضع نهاية لهذا الدهر. إن الآب -لا الابن- هو الذي يعلن ساعة مجيء الابن. هنا المَسِيح يتكلّم وهو ما زال على الأرض لأن السؤال كان «قل لنا متى وما هي العلامات؟» لقد قال لهم كل العلامات، لكن متى؟ لا يستطيع أن يحدّد الموعد لأن المجئ الثاني هو جُزء من هذه المنظومة الكبيرة لصنع الخلاص. إن المَسِيح عندما أخذ صورة إنسان لم يتخلّ عن لاهوته، لكنه تخلّى عن (ممارسة) بعض الأمور. من ضِمن هذه الأمور أن لا يعلن ساعة مجيئه. يتكلّم الكتاب المُقدّس عن المَسِيح الذي يعرف كل شيء. لقد قال له الرّسُول بُطرُس «أنت تعلم كل شيء». إن المَسِيح لديه كل المعرفة، لكن اللافت للنظر هنا أن المسيح ليس لديه سُلطة إعلان هذا الأمر.

إن الفكرة الأساسيّة في موضوع الفداء أن هناك ترتيبًا للأدوار مهم جدًا في عمليّة الفداء. هناك الآب والابن والروح القدس ولا يمكن أبدًا للأدوار أن تختلط. صحيح إن الآب والابن والروح القدس الثلاثة هم واحد، لكن الأدوار التي يقوم بها كل منهم لتميم الفداء والمقاصد أدوار مختلفة عن بعضها البعض. هناك خُضوع داخلي وتسليم بين الأقانيم الثلاثة. هذا الخضوع يظهر عندما يتكلّم الرب يَسُوع كمن أتى في ملء الزمان متجسّدًا، وعاش في أرضنا، لبس جسدنا، وأكل طعامنا. هذا ما يقوله الرّسُول بولس في فيلبي ص 2. وعن بعض الأشياء التي من حق الآب وحده يقول المَسِيح «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت». هل المَسِيح يعارض مشيئة الآب أو يخضع لمشيئة الآب؟ عندما نتناول نَصًا يجب أن نأخذه في الصورة العامّة في البشائر الأربع. إن معرفة المَسِيح كليّة: إنه يعرف ما في قلوب التلاميذ، ويعرف ما في فكر اليهود، ويعرف أن بُطرُس سينكره ثلاثة مرّات، ويعرف أنه سيُصلب وفي اليوم الثالث سيقوم، بل إنه قال ذلك ست مرّات (إنه سيُصلب، وفي اليوم الثالث يقوم). كان المسيح يعرف من سيسلمه لأعدائه. لا يمكن أن آخذ نَصًا واحدًا وأتمسّك به دون مقارنته بباقي النصوص التي تعالج نفس الموضوع. ينبغي أن نضع كل النصوص التي تتناول موضوع معرفة المَسِيح جنبًا إلى جنب مع هذا النص، ونحاول أن نرى الصورة المتكاملة لندرك أن المَسِيح هو الله. إن كل الكتاب يتكلّم عن ذلك، والعبارة التي قالها المَسِيح لا بد أن أفهمها من خلال الصورة العامّة التي يرسمها العهد الجديد لشخص المسيح. لا يمكن أن آخذ آية واحدة وأبني عليها عقيدة ما أو أرسم من خلالها صورة كاملة لأن الآية هي مجرّد جُزء من المنظومة الكبيرة. هناك توزيع للأدوار بين الأقانيم. هناك أشياء يعملها الابن، وهناك أشياء من اختصاص الآب وحده. هناك دور لكل أقنوم في عمليّة الفداء، وقد تمّ ترتيب ذلك في المقاصد الأزليّة لله. هناك دور أيضًا للروح القدس، ولا يمكن أن تختلط الأدوار. لكن الآب جعل تحديد الأزمنة والأوقات في سلطانه. لذلك يقول الكتاب «لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه». في الوقت الذي حدّده الآب لا الوقت الذي حدّده الابن، ففي اتضاع الابن أكمل دوره بالطاعة للخطة الموضوعة من قبل الآب. وفي مجيء الابن ثانية يُحدّد الآب موعد هذا المجيء. إنها أدوار مختلفة يقوم بها الأقانيم الثلاثة في الجوهر الإلهي الواحد.

السؤال الخامس: أليس القول بألوهيّة المسيح شِركًا بالله؟! 

إن السؤال عن ألوهيّة المسيح سؤال مهم وجوهري جدًا، فالايمان المسيحي لا يمكن أن يقبل بفكرة التحوّل، بمعنى أن الله –في المسيح- قد تحوّل إلى إنسان. ولا يقبل بفكرة التأليه بمعنى أننا لا نجعل من إنسان إلهًا يُعبد. تقول كلمة الرب «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ» (يُوحَنّا 1: 1). لكن من هو هذا الكلمة الذي يقول عنه الرّسُول يُوحَنّا «وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ»؟ وما سر هذه العلاقة بين الله وكلمته؟ ذَكَرَ الرّسُول يُوحَنّا مرتيْن قوله «عند الله» ومع هذا يقول «وكان الكلمة الله» هذا الكلمة هو خالق كل الأشياء «فكل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» (يُوحَنّا 1: 3). كل شيء أتى إلى الوجود جاء من خلال يسوع المسيح «الكلمة». يقول كاتب رسالة العبرانيين «الذي به أيضًا عمل العالمين» (1: 2)، وكتب الرّسُول بولس «يسوع المسيح، الذى به جميع الأشياء ونحن به» (كورنثوس الأولى 8: 6). ويقول كاتب المزامير عن كلمة الله «بكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ، وَبِنَسَمَةِ فِيهِ كُلُّ جُنُودِهَا» (33: 6). فالله صنع كل شيء بالكلمة. في أمر الله وكلمته قوّةٌ وحيوية، بل فيه حياة، فبمجرد أن يتكلّم الله يكون، فكلمته هو (لا هي) امتداد لشخصه وطبيعته، وهو تعبيرٌ عن مشيئته. في الكلمة حياة وقوّة وتأثير، فكلمة الله ليست مجرد حروف وجُمل وعبارات وصوت. هذا ما يؤكّده مزمور 107: 19- 20 «فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ. أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ، وَنَجَّاهُمْ مِنْ تَهْلُكَاتِهِمْ». وكذلك يقول إشعياء النبي على لسان الله «لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ الأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلآكِلِ، هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي التي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ» (55: 10-11).

هذه الآيات -وغيرها الكثير- تتحدّث عن كلمة الله وتفسّر لنا كيف أن الله، الذي هو روح غير مرئي يتمّم مشيئته في الأرض. هكذا يتواصل الله معنا ويعلن لنا ذاته من خلال الكلمة، فالكلمة يعلن لنا مشيئة الله وفكره وقلبه وطبيعته وصفاته. لهذا فكلمته تستحق أن نفتخر بها «اَللهُ أَفْتَخِرُ بِكَلاَمِهِ. عَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُهُ بِي الْبَشَرُ؟» (مزمور 56: 4).

يقول بعض معلّمي اليهود، بما أن الله لا يمكن للإنسان أن يراه أو يلمسه فالله دبّر أمرًا به يتواصل مع الإنسان الأرضى المخلوق وهذا الوسيط هو الكلمة. يُطلق عليه علماء اليهود كلمة «ميمرا» بالآرامية، وهي تُشتق من الفعل الآرامي «تقول» (مر) «بالعربي «قال» (التكوين 1). لقد استخدم الترجوم اليهودي كلمة الله في أماكن كثيرة منها التكوين 1: 27 «وخلق كلمةُ الله الإنسانَ» بدلًا من «وخلق اللهُ الإنسانَ»، وفي التكوين 6: 6–7 نقرأ القول «وندم كلمة الله أنه عمل الإنسان على الأرض» بدلًا من «وندم الله أنه عمل الإنسان على الأرض». كذلك في التكوين 15: 6 «فآمن إبراهيم بكلمة الله» بدلًا من «فآمن إبراهيم بالله» (انظر أيضًا التكوين 9: 12، 20: 3، 31: 49؛ الخُروج 14: 31، 20: 1، 25: 22؛ العدد 10: 35-36؛ التثنية 1: 26، 30، 18: 19، 31: 3؛ يشوع 1: 5؛ إشعياء 45: 17)، فالخلاص بكلمة الله والبر بكلمة الله، فكلمة الله هو الله نفسه.

إن كلمة الله صار جسدًا، أي اتخذ جسدًا، وغير المحدود اتحد بالمحدود دون أن يفقد عدم محدوديته ولا أن يفقد المحدود محدوديته. شخصٌ واحد إلهٌ حق وإنسان حق. لهذا فالايمان المسيحي هو الايمان بالله الواحد الذي أرسل كلمته لكي يُخلّصنا.

السؤال السّادس: هل نُصبَ يَسُوع إلهًا بقرار من مجمع نيقية؟ 

يدّعي المشكّكون، بالأخص شهود يهوه والمسلمون الرافضون لقبول حقيقة لاهوت المَسِيح بأن عقيدة لاهوت المَسِيح لم تكن موجودة قبل مجمع نيقية وأن مجمع نيقية هو الذي اخترع هذه العقيدة. يستند هؤلاء وأولئك في إدعائهم على كلام دان براون مُؤلّف «شفرة دافنشي»، والذي قال «إن الإِيمَان بيَسُوع كابن الله كان مقترحًا رسميًا يصوّت عليه مجمع نيقية، فمن خلال الاعتراف بيَسُوع كابن الله رسميًا استطاع قسطنطين أن يُحوّل يَسُوع إلى إله». إذًا كيف يُمكننا أن نجيب على هذا الادعاء الخاطى؟ إن أفضل إجابة يمكن أن تدحض هذا الادعاء هي أقوال آباء الكنيسة قبل مجمع نيقية، بمعنى إذا كان الإِيمَان بلاهوت المَسِيح قد تمّ اختراعه في مجمع نيقية فإن بداية الإِيمَان بهذا المعتقد تكون سابقة لتاريخ مجمع نيقية. وإذا أثبتنا أن آباء الكنيسة الذين عاشوا قبل مجمع نيقية كانوا يُؤمنون بلاهوت المَسِيح، يكون الإِيمَان بلاهوت المَسِيح حقيقة ارتبطت بالإِيمَان المَسِيحي منذ نشأته ويكون الادعاء بأن مجمع نيقية قد اخترعه ادعاءً غير صادق ولا يُبنى على أي أساس تاريخي.

إِيمَان آباء الكنيسة بلاهوت المَسِيح قبل مجمع نيقية 

أغناطيوس الأنطاكي (50 –117م)

كان القديس أغناطيوس معاصرًا للرسول يُوحَنّا الحبيب، فقد استشهد سنة 117م. وبينما كان منتظرًا تنفيذ حكم الموت كتب أغناطيوس سبعة رسائل مهمّة. كان أغناطيوس مُعاديًا بشدّة لبدعة إنكار ناسوت المسيح، ولهذا أكّد في رسائلة حقيقة كون المَسِيح إنسانًا كاملًا. كتب «يوجد طبيب واحد، وهو في الوقت نفسه إنسان وإله، مولود وغير مولود. الله صار جسدًا... هو يَسُوع المَسِيح ربنا». «حينئذ دمّر كل سحر، وانقطعت كل علاقة خبيثة، وانقشع الجهل، وانهدم الملكوت القديم، لما صار الله إنسانًا لتجديد الحياة الأبديّة».

«في إِيمَان واحد بيَسُوع المَسِيح الذي من نسل داود حسب الجسد، ابن الإنسان وابن الله».
«لأن إلهنا، يَسُوع المَسِيح، مرئي الآن أكثر ممّا كان عند الآب».
«أنا أمجّد يَسُوع المَسِيح، الله الذي جعلكم حُكماء، لأنني لاحظت أنكم ثابتين في الإِيمَان غير متزعزعين وكأنكم سُمرتم إلى صليب الرب يَسُوع المَسِيح».
بوليكاربوس (69–155م)
«أنتظر متوقّعًا الشخص الذي هو فوق الزمن، الأبدي، غير المرئي، والذي من أجلنا أصبح مرئيًا، الذي لا يتألّم، لكن من أجلنا تألّم، والذي من أجلنا تحمّل كل شيء». تتلمذ بوليكاربوس على يد الرّسُول يُوحَنّا الحبيب وصار فيما بعد أسقفًا على أزمير (سميرنا). كتب بوليكاربوس قائلًا «الآن، الله أبو ربنا يَسُوع المَسِيح، ورئيس الكهنة الأزلي بنفسه، يَسُوع المَسِيح ابن الله يبنيكم في الإِيمَان والحق». «إن الرب خضع للألم من أجل نفوسنا، على الرغم من أنه رب العالم كله». جاستن مارتر (100–165م)
يعتبر جاستن مارتر واحدًا من أعظم المُدافعين عن الإِيمَان المَسِيحي في القرن الثاني الميلادي. أكّد مارتر في كتاباته على لاهوت الكلمة، شخص يَسُوع المَسِيح الذي هو الله المتجسّد، فالكلمة كان موجودًا قبل التجسّد وقد تكلّم من خلال الأنبياء في العهد القديم (عبرانيّين 1: 1- 3)، كما قال بأن ظُهورات الله في العهد القديم هي في الحقيقة ظُهورات للمسيح قبل تجسّده، فيَسُوع هو «الحكمة» في سفر الأمثال 8، والعبارات التي قالها الله مثل «نعمل»، «على صورتنا كشبهنا» تُشير إلى الثالوث الإلهي «الأقانيم الثلاثة».
«اسمحوا لي أوّلًا أن أعدّد النبؤات التي تؤكّد أن يَسُوع دُعي الله ورب الجنود».
«لأجل هذا تشهد هذه الكلمات صراحة أن يَسُوع يُشهد له من الآب على أنه يستحق العبادة مثل الله».
ايريناوس (130–200م)
وُلد ايريناوس في آسيا الصغرى (تركيا) وكان تلميذًا للقديس بوليكاربوس، وقد عُيّن أسقفًا لمدينة ليّون (فرنسا) سنة 177م. أكّد ايريناوس أن الله موجود كآب وابن وروح قدس، وهو خالق السماوات والأرض من لا شيء بكلمته وبروحه. كما أكّد ألوهيّة المَسِيح فقال «الآب هو الله، والابن هو الله، لأن من وُلد من الله فهو الله». «إن المَسِيح هو نفسه كلمة الله الذي تأنّس، وأخذ سُلطان مغفرة الخطايا. لقد كان إنسانًا وكان إلهًا بحيث إنه تألّم من أجلنا كإنسان، تمامًا كما أشفق علينا كإله».
اكليمندس الرّوماني (150–215م)
يُعتبر اكليمندس واحدًا من أبرز وأشهر مُعلّمي مدرسة الاسكندريّة في القرن الثاني الميلادي. اهتم اكليمندس بالفلسفة والأدب والشعر، كما أنه كان ضليعًا في الكتاب المُقدّس فاستشهد بنُصوص من العهد القديم والعهد الجديد أكثر من 3500 مرّة. فاقت تعاليم اكليمندس عن اللوجوس كثيرين من أسلافه ومعاصريه، فاللوجوس هو الخالق والكاشف الأوّل لظُهور العظمة الإلهيّة في العهد القديم بل حتى في الفلسفة اليُونانيّة. والكلمة، اللوجوس صار جسدًا وبهذا أزاح الستار عن الغُموض الذي كان يكتنف سر الله «فالابن هو الأقنوم الثاني من الثالوث، وهو فوق كل خليقة، وهو الحكمة والمعرفة والحقيقة. إنه اللوجوس الذي يتنبّأ، والذي يحكم، والذي يدرك كل شيء». فالابن أزلي أبدي سرمدي .. ومعرفة الآب الحقيقيّة تتوقّف على الابن، في وحدة متلازمة وفي تطابق كُلّي. الابن يعرف الآب، ويراه يعمل، لذلك ليس بإمكان الابن أن يصنع شيئًا دون هذه المعرفة». فالمَسِيح الكلمة «الذي هو ابن الله– واحد مع الآب بمقتضى مساواته له في الجوهر. وهو أبدي وغير مخلوق». كما يلخّص لنا اكليمندس هدف التجسّد فيقول «لقد تجسّد المَسِيح ليعتقنا من الخطيّة، متخذًا جسدًا بشريًا، مولودًا من عذراء، مائتًا على الصليب، قائمًا من القبر، منتصرًا على الموت».
ترتليان (160–230م)
وُلد في عائلة وثنيّة في مدينة قرطاجة. أتقن اللغتيْن اليّونانيّة واللاتينيّة ودرس المحاماة. قَبِلَ الإِيمَان المَسِيحي على الأرجح سنة 197م، ثم أصبح من أشهر الآباء واللاهوتيّين الغربيّين اللاتين المدافعين عن الإِيمَان المَسِيحي. كان ترتليان أوّل من استخدم لفظ «ثالوث» في الحديث عن الله وأكّد على أن الله واحد في الجوهر مثلث الأقانيم، الآب والابن والروح القدس. يُميّز ترتليان اتحاد طبيعتيّ المَسِيح دون تحوُّل أو اختلاط او امتزاج، فالمَسِيح كان إلهًا وإنسانًا، وكإله صنع المعجزات والعجائب العظيمة، وكإنسان جاع وعطش وتعب وتألّم وبكى «نحن نؤمن برب واحد يَسُوع المَسِيح/الابن الوحيد المولود من الله (الآب). وهو ليس مولودًا ممّا لم يكن، بل مولود من الآب». أوريجانوس (185–254م)
وُلد من أبويْن مسيحييْن في الاسكندريّة بمصر، واستشهد والده وهو صغير فأراد هو أن يكون شهيدًا كأبيه إلا أن أُمَّه أجبرته على المكوث في البيت بعد أن خبّأته في ملابسه. كان أوريجانوس ذا عقليّة فذّة وقد ظهر ذلك حيث أصبح معلمًا في مدرسة الاسكندريّة وعمره 18 سنة. عيّنه البابا ديمتريوس الأوّل رئيسًا لمدرسة الاسكندريّة خلفًا لاكليمندس السكندري. وعن أزليّة المَسِيح «كلمة الله» يقول أوريجانوس «إذا كان الابن هو الكلمة والحكمة والعقل بالنسبة لله، فكيف يمكن أن يكون هناك زمن لم يكن فيه الابن موجودًا؟! هذا يستوي مع قولهم بأن هناك وقت كان الله فيه بدون حكمة أو بدون عقل» ويقول عن مساواة الابن مع الآب في الجوهر «الابن مشترك مع الآب في الجوهر لأن ما ينبثق (أو يُولد) من الجوهر هو مساو له وواحد معه."